وفي الرواية الرسمية، تُوجَّه لهؤلاء تهم من قبيل "التجسس" و"الاختراق الأمني". وبدلاً من البحث في جذور الأزمة، اختار النظام تحميل المسؤولية لهؤلاء المهاجرين المستضعفين.
قمع ممنهج.. من يد عاملة رخيصة إلى "عملاء للموساد".
بعد وقف إطلاق النار، أُوكلت إلى القوات الأمنية مهمة طرد جميع المهاجرين الأفغان "غير الشرعيين" من البلاد. وفي بعض الحالات، أُعلن أن كل عقار تم تأجيره لأفغان يجب أن يُغلق وتُصادر ممتلكاته.
وفي مدن مختلفة، عمدت قوات الأمن الإيرانية إلى اعتقال هؤلاء المهاجرين تحت ذرائع مثل "الارتباط بإسرائيل"، وأجبرتهم على الإدلاء باعترافات لبثّها تلفزيونيًا.
وشنّت وسائل إعلام النظام حملة شرسة لتصويرهم على أنهم "جواسيس"، في حين كانوا حتى الأمس القريب يُشاد بهم كـ "مدافعين عن الحرم" أو "عمّالة رخيصة"، واليوم يُصنّفون على أنهم "تهديد للأمن القومي" و"عملاء للموساد".
ليست حادثة بل عنف ممنهج
وفقًا لأحدث تقديرات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يعيش في إيران نحو 4.5 مليون مهاجر أفغاني، من بينهم فقط نحو 760 ألف لاجئ رسمي، بينما يقيم قرابة نصف مليون آخرين بصورة غير قانونية. ويدّعي النظام الإيراني أنه طرد منذ بداية هذا العام فقط أكثر من 500 ألف مهاجر أفغاني.
وفي الوقت ذاته، أعلنت منظمة "إنقاذ الطفولة" أن 80 ألف طفل أفغاني عادوا من إيران خلال هذه الفترة، بينهم 6700 طفل دون مرافقة. وهذا مثال واضح على عنفٍ ممنهج لا يمكن تبريره.
تضليل لتغطية الفشل الاستخباراتي
أظهرت الهزائم الأمنية والاستخباراتية الأخيرة، بما في ذلك مقتل قيادات رفيعة في الهجمات الإسرائيلية، عمق الاختراق داخل بنية النظام. وبدلاً من تحمّل المسؤولية أو إصلاح الأجهزة الاستخباراتية، لجأ النظام إلى سياسة التضليل. فبدل تعقّب العناصر المخترِقة من داخل أجهزته، بات يُحمّل المهاجرين الأفغان مسؤولية "شبكات التسلل".
وقد تساءل الرأي العام مرارًا: كيف لنظام يتفاخر دومًا بتحدّيه القوى الكبرى، أن يتلقى ضربة بهذا الحجم خلال 12 يومًا فقط؟ ولماذا كانت منشآته النووية بهذه الدرجة من الهشاشة؟ ومَن هو الجاسوس الحقيقي الذي تعاون من داخل النظام مع إسرائيل وأميركا؟
لكن النظام، عوضًا عن تحقيقات أمنية جادة للإجابة عن هذه الأسئلة، اختار ترحيل عشرات الآلاف من الأفغان تحت ذريعة "التجسس"، في محاولة واضحة لصرف الأنظار. والتغطية الإعلامية المكثّفة المصحوبة بصور مؤثرة لعمليات الطرد الجماعي، ما هي إلا وسيلة لإلهاء الناس عن البحث عن الحقيقة.
المهاجرون ليسوا غرباء بل شركاء في الحياة اليومية
تعيش غالبية المهاجرين الأفغان في إيران منذ سنوات، فقد عملوا، وكوّنوا أسرًا، وولد أبناؤهم وتعلموا هناك. إنهم ليسوا غرباء ولا تهديدًا، بل هم جزء لا يتجزأ من المجتمع الإيراني. واليوم، تُغلق منازلهم، وتُصادَر ممتلكاتهم، وتُلصق بهم تهم "التجسس" دون محاكمة عادلة.
ولا شك أن إيران تواجه تحديًا كبيرًا اسمه "اللاجئون الأفغان"، لكن حلّ هذا التحدي لا يكون عبر العنف والمعاملة اللاإنسانية. توجيه اتهامات جماعية وجائرة لملايين البشر المستضعفين لا يحلّ شيئًا، بل يحوّل المسألة إلى أزمة إنسانية واجتماعية وإعلامية على المستوى الدولي.
وطرد نصف مليون إنسان خلال أشهر قليلة، دون تخطيط دقيق أو دعم لوجستي، له ثمن إنساني باهظ جذب أنظار العالم نحو إيران. وقد يعتبر البعض أن هذه الإجراءات تعبّر عن النظام وحده، لكن الرأي العام العالمي سيرى فيها موقفًا صادرًا عن الشعب الإيراني كله.
النظام الإيراني ودائرة لا تنتهي من صناعة الأعداء
هذا النمط تكرر كثيرًا: أزمة تندلع، فيُخترَع عدوّ جديد، ويبدأ القمع. إنها حيلة مكررة أصبحت مفضوحة. النظام الإيراني يلجأ دائمًا إلى الآلية نفسها المعروفة في "صناعة العدو": تارة يستهدف الطلاب، وتارة النساء، والآن يستهدف المهاجرين الأفغان.
والمشكلة ليست في المهاجر أو جنسيته أو قوميته، بل في بنية السلطة الإيرانية نفسها، التي تفتقر للمحاسبة. فحكومة تخشى النظر في المرآة، تحتاج دومًا إلى "آخر" تتهمه لتتهرّب من المسؤولية. هذه هي السياسة، التي انتهجها المرشد علي خامنئي طيلة عقود لبقاء النظام الإيراني: خلق وحدة زائفة بين أنصار النظام عبر تقديم "عدو وهمي" دائمًا.
مسؤولية تاريخية واختبار للضمير الإنساني
إذا ما أراد التاريخ يومًا أن يُقيّم المجتمع الإيراني في الحاضر، فإن تعامل هذا المجتمع مع المهاجرين الأفغان سيكون أحد أبرز المعايير؛ فالمسألة لا تتعلق بالأرض والحدود فقط، بل بإنسان عاش بجوارنا. السكوت على الظلم الواقع على هؤلاء لا يزيدهم ضعفًا فحسب، بل يجرح ضمير الأمة الإيرانية نفسها.
وفي النهاية، فإن الشعب الإيراني هو من سيدفع ثمن هذه التصرفات، وسيذوق أبناؤه تبعاتها في المستقبل. ولن ينسى المجتمع الدولي هذا السلوك، وسيستغرق التئام الجرح، الذي أُصيب به النسيج الاجتماعي الإيراني، سنوات طويلة.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، أصبح المبدأ الإيراني القديم "بنو آدم أعضاء جسد واحد" موضع تساؤل. فالنظام الإيراني يسيء يومًا بعد يوم لصورة إيران، والضرر الذي يُرتكب باسمها صار لا يُمكن إنكاره، بل ربما لا يمكن إصلاحه أبدًا.