فالتهديد العسكري ما زال قائمًا، لكن في الداخل، اتجه النظام السياسي بدلاً من إعادة البناء عبر الحوار أو الإصلاح، نحو الانكماش والسيطرة وإعادة إنتاج الخوف.
وتحوّلت الشهور، التي تلت الحرب بالنسبة للنظام الإيراني، إلى مرحلة إعادة تعريف للسلطة، وهذه الإعادة تميل نحو مزيد من الانغلاق واكتساب طابعٍ أكثر قسوة.
لا يملك مسؤولو طهران إرادة التفاوض مع الدول الغربية، فهم لا يريدون الاعتراف بهزائمهم السياسية والعسكرية خلال العامين الماضيين، ولا يرون في التغيير احتمالاً واقعيًا لأنفسهم.
وفي هذا السياق، أصبحت أولوية النظام في إعادة تعريفه للسلطة هي تحويل كل شيء إلى قضية أمنية. فالعسكرة باتت تهيّمن على المجال السياسي، وأُحكم تركيز القرارات الكبرى في الهياكل الأمنية والاستخباراتية. وأصبحت السياسة تُدار أكثر فأكثر عبر شبكات مغلقة غير خاضعة للمساءلة.
وارتفعت وتيرة الإعدامات والأحكام القضائية القاسية، وتوسعت أنظمة الحصص والمراقبة الرقمية على المصادر الاقتصادية والخدمات العامة، فيما تزداد الروايات الرسمية، التي تركز على خطر العدو الخارجي وضرورة "الجهوزية الدائمة".
وفي الوقت نفسه، تؤدي شبكة من المؤسسات العسكرية والاقتصادية، والمنصات المحلية، دور الوسيط بين الثروات والامتيازات الاقتصادية والمقرّبين من السلطة. ويمكن وصف هذا النمط الجديد بأنه "إدارة أزمة مستمرة"؛ وهو شكل من الحكم يستمد استقراره لا من رضا الناس، بل من مزيجٍ من السيطرة والخوف وتداول محدود للامتيازات.
إعادة تركيب السلطة في إيران بعد الحرب
بعد نهاية الحرب، التي استمرت 12 يومًا مع إسرائيل، وتفعيل "آلية الزناد"، وجد النظام الإيراني نفسه في مواجهة تحديات داخلية، أبرزها السخط الشعبي الناتج عن الأزمة الاقتصادية والخلافات السياسية. ولهذا ركّز جهوده على محورين أساسيين: الأمن والسيطرة الاقتصادية.
ويبدو أن هذين المحورين أصبحا اليوم الركيزة الأساسية لبقاء النظام السياسي، فيما أعيد تعريف سائر المؤسسات- من الإعلام إلى التعليم- على أساسهما.
وفي المجال الأمني، حدثت تغييرات كبيرة يمكن رؤيتها في تصاعد الإعدامات العشوائية، وعمليات الاعتقال، والأحكام القضائية القاسية.
ومن ناحية أخرى، نصّبت الأجهزة الأمنية نفسها جهةً تنظّم العلاقات الاجتماعية. فالمراقبة الرقمية، والسيطرة على المجال العام بذريعة "الحرب الإعلامية"، وتوسيع البرامج الشرطية في المدارس، كلها مؤشرات على هذا التحوّل. وفي الوقت نفسه، فإن التدخل الانتقائي في قضية الحجاب يعكس إعادة ترتيب الأولويات، بحيث يتم احتواء السخط الشعبي تحت السيطرة.
وإلى جانب ذلك، تلاشت الحدود بين الأجهزة الأمنية والسياسية، وأصبحت معظم القرارات اليومية للنظام تمر عبر مؤسسات أمنية مثل "المجلس الأعلى للأمن القومي". وقد ترافق بروز الطابع الأمني والعسكري مع تحولات اقتصادية تصبّ في مصلحتهما.
فبينما يتحدث البرلمان والحكومة عن زيادة موازنات المؤسسات العسكرية، يشهد الاقتصاد تحوّلات لافتة. فدور الحكومة كمؤسسة مسؤولة عن التنمية تراجع إلى أدنى مستوياته، حتى أن بعض المسؤولين الحكوميين أقرّوا بأن مواردهم الاقتصادية محدودة، ولذلك تحوّلت الحكومة إلى مجرد آلية لتوزيع الموارد بين المقرّبين من النظام.
ورغم طرح أفكار مثل "ترشيق الحكومة"، فإن الهدف ليس رفع الكفاءة، بل تقليص العبء المالي عبر الدمج المؤسسي.
وأما على صعيد السياسة الاقتصادية، فقد تحولت إيران، بقرارات وزير الاقتصاد الجديد وخصوصًا بتجنّبه التدخل في عمل المصرف المركزي، إلى نظام قائم على "الثواب والعقاب"؛ إذ أصبح الحصول على القروض والتراخيص ورأس المال مرتبطًا بمدى الثقة السياسية. هذه السياسة جعلت دور الوسطاء أكثر بروزًا، وسيزداد ذلك في المستقبل.
إن صعود "الأوليغارشيين" و"أبناء المسؤولين" في إيران، خلال هذه المرحلة، هو مثال واضح على هذا النمط، وقد جعلت العقوبات المشددة وجودهم أكثر ضرورة للنظام.
وقد أفرز الجمع بين الأمن والاقتصاد نظامًا قائمًا على السيطرة، تتصرف فيه الأجهزة الأمنية والمؤسسات الاقتصادية والمنصات المعلوماتية كوحدةٍ واحدة. تُتخذ القرارات بناءً على الاعتبارات العسكرية والأمنية، وداخل هذه الشبكة نفسها تُنظَّم عملية الموازنة بين الموالين.
ويسعى هذا النظام القائم على السيطرة إلى إدارة المجتمع من خلال تنظيم الوصول، سواء الوصول إلى الموارد الاقتصادية والتواصلية أو الوصول إلى المعلومات والمجالات السياسية. في هذا الإطار، اندمج الأمن والاقتصاد وولّدا شكلاً جديدًا من الطاعة؛ طاعة تقوم على الخوف من فقدان الوصول.
ويقف النظام الإيراني بعد الحرب في ظل هذا النمط من الحكم؛ نمط يبدو مستقرًا في الظاهر، لكنه يستمد توازنه من إحكام السيطرة على الفضاء العام وضبط مسارات التدفق، لا من التوافق المجتمعي أو التفاعل السياسي.
بقاء بلا إعادة بناء
النظام الذي تشكّل في إيران بعد الحرب يعتمد قبل كل شيء على قدرة الدولة على الحفاظ على السيطرة وكبح الأزمات. وقد نجح هذا النموذج مؤقتًا في منع اتساع حالة عدم الاستقرار، لكنه على المدى الطويل يواجه قيودًا بنيوية خطيرة.
فالسيطرة الأمنية وإعادة توزيع الموارد هما أداتان ضمنت بهما السلطة بقاءها حتى الآن، لكن كلا الأداتين قابلتان للاستهلاك. فالأمن، حين يصبح بديلاً عن السياسة، يحتاج إلى توسّع دائم؛ عليه أن يراقب أكثر فأكثر ليحافظ على المستوى ذاته من الانضباط. أما إعادة التوزيع، فعندما تحلّ محل الإنتاج، فإنها تستهلك تدريجيًا الموارد القليلة المتبقية.
وفي هذا السياق، تقلّصت بشدة قدرة الحكومة على اتخاذ القرار. باتت القرارات في الغالب آنية وردّ فعل على أخطار عاجلة، لا قائمة على رؤية طويلة المدى.
وهذه الحالة هي ما يسبب الجمود المؤسسي: فالمؤسسات تعمل، لكنها لا تتطور. وحلت المجالس واللجان الخاصة محل العمليات السياسية، وأصبح الأمن هو اللغة المشتركة لجميع صانعي القرار. هذا التركيز يمنح في الظاهر نوعًا من التنسيق، لكنه في الواقع يضيّق مساحة اتخاذ القرار ويجعل الإصلاح مستحيلاً.
إن استمرار هذا النظام لا يعود إلى قوة مؤسساته بقدر ما ينبع من عاملين: خوف الحكومة من الداخل والخارج، وغياب البديل السياسي.
فالقوى المعارضة محرومة من التنظيم، والقوى الموجودة داخل البنية الحاكمة عاجزة عن التجدد أو إعادة تعريف نفسها. وهكذا وصل النظام القائم إلى نوع من البقاء السلبي، بقاء يتغذى على مزيج من السيطرة والخوف والوصول المحدود إلى الموارد.
ومثل هذا الوضع، في ظل غياب إعادة بناء مؤسسية أو تهديد داخلي أو خارجي حقيقي، قد يستمر سنواتٍ طويلة. لكنه في جوهره ليس استقرارًا حقيقيًا، بل هو شكلٌ من أشكال تأجيل القرار؛ تأجيلٌ سيأتي يومٌ يفرض فيه كلفته على بنية السلطة وعلى الشعب الإيراني معًا.