لا يزال العدد الدقيق للقتلى، الذين سقطوا على يد عناصر الأمن والشرطة والقوى شبه الرسمية في النظام الإيراني، خلال احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 غير واضح. فقد اعترف النظام بمقتل 225 شخصًا، بينما تحدثت تقارير وتحقيقات مستقلة عن مئات إلى ألف وخمسمائة متظاهر أو أكثر.
وقد اندلعت احتجاجات نوفمبر 2019 على خلفية ارتفاع أسعار البنزين، ومع انتشارها وقمع المحتجين بعنف من قبل النظام، عُرفت هذه الأحداث باسم "نوفمبر 2019 الدامي". ومع ذلك، لا يوجد رواية موحدة حول عدد الضحايا.
وعلى المستوى الرسمي، امتنعت السلطات الإيرانية لشهور عن إعلان أي أرقام رسمية لعدد القتلى، وحاولت لاحقًا إبراز العدد أقل مما هو عليه في الواقع.
محاولات للتنصل من المسؤولية وتصغير حجم القمع في أبريل (نيسان) 2021، قال عضو البرلمان آنذاك والرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشکیان، في مقابلة مع صحيفة "همدلي" حول سبب عدم متابعة عدد القتلى: "أولئك الذين أعلنوا هذه الأرقام ذهبوا إلى السجن. أنا لم أعلن لأتفادى السجن؛ وأنتم أيضًا إذا أردتم القيام بذلك فستذهبون إلى السجن".
كما أكد عبد الرزاق رحماني فضلي، وزير الداخلية في حكومة الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني، في 31 مايو (أيار) 2020 مقتل نحو 225 شخصًا، وبشأن إطلاق النار على رؤوس المتظاهرين، قال- ببرود أعصاب: "حسنًا، لم نطلق النار فقط على الرؤوس، بل أيضًا على الأرجل".
وفي اليوم التالي، أعلن رئيس لجنة الأمن القومي في الدورة العاشرة للبرلمان الإيراني، مجتبي ذو النور، أن عدد قتلى احتجاجات نوفمبر 2019 كان 230 شخصًا، وقال: "الإعلام الأجنبي أعلن أرقامًا كاذبة حتى وصل إلى 10 آلاف قتيل، لكن العدد الإجمالي كان 230، بينهم ستة عناصر أمنية".
وقال النائب السابق في البرلمان الإيراني، مصطفى كواكبيان، في 20 يناير (كانون الثاني) 2020، إن السلطات أبلغت أعضاء هذه اللجنة بأن عدد القتلى في احتجاجات نوفمبر كان 170 شخصًا، لكنه لم يحدد أي جهة جمعت هذه الأرقام وأبلغت بها؛ وهو الرقم الذي نُشر قبل أيام في مجلة "باسدار إسلام" في مدينة قم.
ويرى كثير من المراقبين أن الجزء الأكبر من القمع وقع بعد خطاب المرشد الإيراني، علي خامنئي في 17 نوفمبر 2019؛ حيث وصف المحتجين بأنهم "أشرار" وفتح فعليًا الطريق للقمع العنيف.
صورة أوسع لأبعاد المجزرة في المقابل، كشفت تقارير نشطاء حقوق الإنسان والهيئات والإعلام المستقل عن أرقام تفوق بكثير الروايات الرسمية، مما يعكس حجم القمع الدموي الواسع، الذي تعرض له المتظاهرون.
وأعلنت منظمة العفو الدولية عام 2020، في تقريرٍ لها، أنها استطاعت توثيق مقتل ما لا يقلّ عن 304 متظاهرين بين 16 و19 نوفمبر 2019، وقامت في نوفمبر 2021 بتحديث هذه القائمة إلى أكثر من 324 شخصًا.
ونشر موقع "كلمة"، في 2 يناير 2020، تقريرًا استنادًا إلى الأرقام الواردة في "نشرات سرية مصنّفة بحسب المحافظات في مختلف أنحاء البلاد"، وذكر فيه أن عدد قتلى احتجاجات نوفمبر بلغ 631 شخصًا.
وفي سياقٍ متصل، أفادت وكالة "رويترز"، في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2019، استنادًا إلى ثلاثة مسؤولين في وزارة الداخلية ومصدر مقرّب من مكتب المرشد الإيراني، بأن العدد التقريبي للضحايا يصل إلى نحو 1500 قتيل؛ وهي رواية جُمِع فيها المتظاهرون والمارّة والنساء والمراهقون وجزء من عناصر الأمن معًا.
كما أعلنت منظمة حقوق الإنسان في إيران، في 20 ديسمبر 2019، أن ما لا يقلّ عن 324 مواطنًا قُتلوا خلال تلك الاحتجاجات.
ونشر موقع "هرانا"، في 3 ديسمبر 2019، تقريرًا بعنوان "موجز عن احتجاجات نوفمبر الدامية 2019"، قال فيه إن مركز الإحصاء التابع له وضع ثلاث طبقات من البيانات لعدد الضحايا، وأن التقديرات العامة للهيئات ووسائل الإعلام غير الحكومية تشير إلى أكثر من 430 قتيلاً.
وهذا التباين الكبير بين الأرقام المتعلقة بعدد قتلى احتجاجات نوفمبر 2019 هو نتيجة غياب إمكانية إجراء تحقيقٍ مستقل داخل إيران في ظلّ الرقابة المنهجية، التي يفرضها نظام خامنئي، فضلاً على اختلاف طرق جمع البيانات.
الارتفاع الحاد في الوفيات وفق سجلات الأحوال المدنية من جهة أخرى، وعلى الرغم من غياب الإحصاءات الرسمية الشفافة، فقد قدّمت بيانات الأحوال المدنية في البلاد مؤشرًا مهمًا لفهم حجم المجزرة.
ونشرت منظمة الأحوال المدنية عام 2021 الإحصاءات الشهرية للوفيات في خريف 2019؛ وهي بيانات أظهرت تسجيل أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة حالة وفاة إضافية في شهر نوفمبر من ذلك العام، مقارنة بمتوسط السنوات السابقة.
ففي نوفمبر 2019 وحده، سُجِّل في نظام الأحوال المدنية ما لا يقلّ عن 38 ألفًا و517 حالة وفاة؛ أي أكثر بأربعة آلاف حالة من أكتوبر (تشرين الأول) الذي شبقه مباشرة، وبقرابة خمسة آلاف حالة من ديسمبر. وقد أعلن عدد كبير من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي آنذاك أن هذا الارتفاع لا يشبه أيّ نمط معروف للوفيات في السنوات السابقة أو اللاحقة.
وفي السنوات التالية، أكدت تحليلات ودراسات إحصائية هذا المشهد، مشيرةً إلى أن الزيادة الاستثنائية البالغة عدة آلاف من الوفيات في خريف 2019 لا يمكن تفسيرها بانتشار "كورونا" أو "الإنفلونزا"، ولا بحوادث السير، ولا بالأخطاء المعتادة في التسجيل؛ إذ لم يُظهر أي من هذه العوامل نمطًا تصاعديًا ينسجم مع هذه الذروة غير الطبيعية.
وهذا الارتفاع الكبير في بيانات الأحوال المدنية، عندما يُوضَع إلى جانب الروايات الميدانية عن طريقة القمع، يرسم صورة أوضح لحجم المجزرة في نوفمبر 2019.
قطع الإنترنت وتوسّع القمع إلى جانب هذا الارتفاع في الوفيات، أدّت شدة القمع في الشوارع وقطع الإنترنت بشكلٍ واسع في الأيام الأخيرة من نوفمبر 2019 إلى إخراج جزء مهم من الواقع عن نطاق التوثيق المستقل.
فمع بدء الاحتجاجات واتّساعها في عشرات المدن ومئات النقاط، قُطع الإنترنت المحمول والمنزلي تمامًا لعدة أيام؛ وهو إجراء حرم المواطنين من إمكان تصوير الأحداث، وإرسال التقارير، وإبلاغ العائلات عما يجري.
وقدمت الشهادات الميدانية وروايات المواطنين، في الأسابيع والأشهر التالية، صورة مماثلة؛ إذ جرى استخدام واسع للأسلحة العسكرية، وإطلاق الرصاص مباشرة على رؤوس ووجوه وصدور المتظاهرين، وفي بعض المناطق مثل مدينة "ماهشهر"، جرى استخدام الرشاشات الثقيلة ضد متظاهرين احتموا بالمستنقعات على أطراف المدينة.
وأكد مسؤولون محليون بالمدينة، في مقابلات لاحقة، حصول هذه المجزرة، لكن لم يُقدَّم أي رقم رسمي عنها؛ وهو النمط نفسه الذي تكرر في عدد من المدن الأخرى في إيران.
وجاء في التقارير المستقلة من "ماهشهر" أن عشرات المتظاهرين، بينهم نساء ومراهقون، استُهدفوا بالرشاشات أثناء لجوئهم إلى المستنقعات. وقدّرَت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عدد ضحايا هذا الحادث بنحو 100 شخص.
الضغط على عائلات الضحايا إلى جانب القمع في الشوارع، شكّل الضغط المنظّم، الذي مارسته الأجهزة الأمنية والقضائية للنظام الإيراني على عائلات الضحايا، عائقًا آخر أمام توثيق الأرقام بدقة.
فقد خضعت عائلات الضحايا في الأشهر والسنوات، التي تلت نوفمبر 2019، لواحدة من أشدّ حملات الضغط والتهديد والمراقبة، بهدف إسكاتهم وثنيهم عن المطالبة بتحقيق العدالة، ومنعهم أيضًا من تسجيل أي رقم يتعارض مع الرواية الرسمية للنظام.
واستُدعي كثير من أفراد هذه العائلات للتعهّد بعدم التحدث مع وسائل الإعلام عن كيفية مقتل أبنائهم. وتعرّض آخرون لتهديدات مباشرة بأنهم إذا لم يصمتوا، فسيُصاب أفراد آخرون من الأسرة بأذى، أو "سيُقتلون".
وحين قصدت بعض العائلات المستشفيات والمراكز الطبية، واجهت جدارًا آخر من الصمت؛ فلم تُعثر على أسماء ذويها في السجلات، ولم يُسلَّم لها أي ملف طبي أو تقرير إسعاف أو نتيجة تشريح. وقيل لها إن الوثائق "سرية" أو يجب متابعتها عبر الأجهزة الأمنية.
وفي بعض الحالات، مُنع حتى تسجيل إصابات الجرحى أو نقل الجثث إلى المستشفيات رسميًا، حتى لا يبقى أي أثر عن وقت الإصابة أو نوعها أو هوية المصابين في الأنظمة الرسمية.
وهذا التعتيم جعل التحقق من سبب الوفاة وطريقتها شبه مستحيل بالنسبة للجهات المستقلة.
وإضافةً إلى التهديدات، واجه كثير من العائلات ظاهرة أخرى؛ فقد سُلّمت جثامين بعض الضحايا للعائلات تحت الضغط والإلحاح، وفي حالات كثيرة جرى الدفن ليلاً، ودون حضور ذوي المتوفين، لمنع إقامة مراسم أو تجمعات أو نشر الصور.
كما استُخدمت في شهادات الوفاة عبارات مبهمة مثل "إصابات ناجمة عن اشتباك"، "ضربة بجسم صلب" أو "توقف القلب"، لإخفاء السبب الحقيقي للوفاة، وهو الإصابة بالرصاص أو جراء إطلاق النار المباشر أو الضرب العنيف.
وفي عدد من الملفات، حاولت قوات الأمن تقديم الضحايا بوصفهم "مثيري شغب" أو "مشتبهين أمنيين"، وتصوير موتهم كأنه نتيجة "اشتباك مسلح”.
وهذه الإجراءات مجتمعة أدت إلى سدّ الطريق أمام التوثيق المستقل، وجعلت الوصول إلى الأرقام الحقيقية غير ممكن.
ونتيجةً لعدم القدرة على الوصول إلى المستشفيات والطب الشرعي والوثائق الرسمية، اضطرت المؤسسات المستقلة إلى اعتماد طرق مختلفة في تسجيل القتلى.
فغالبية منظمات حقوق الإنسان لا تنشر إلا الأسماء، التي جرى التحقق منها، عبر عدة مصادر وشهادات مستقلة؛ لذلك فإن قوائمها تمثل "الحد الأدنى الموثّق" لا "العدد الحقيقي للضحايا".
وفي المقابل، قدّمت وسائل إعلام مثل "كلمة" أو الشبكات المحلية، التي تصل إلى تقارير المحافظات أو مصادر غير رسمية، أرقامًا أعلى.
أما منظمة "هرانا"، المعنية بحقوق الإنسان في إيران، فقد قدمت ثلاثة مستويات من الأرقام: تقدير عام يفوق 430 قتيلاً، قائمة بأسماء 227 شخصًا، و88 حالة مؤكدة بشكل مستقل. هذا الاختلاف في الأساليب يفسر جزءًا مهمًا من التباين بين الأرقام.
وإلى جانب القتلى، امتدّ نطاق القمع في نوفمبر 2019 إلى آلاف الاعتقالات والأحكام القضائية القاسية؛ إذ حُكم على كثيرين بالإعدام، والسجن لمدد طويلة، والنفي، والحرمان من الحقوق الاجتماعية.
ولا يزال محمد جواد وفايي ثاني، الملاكم والسجين السياسي المعتقل بسبب مشاركته في هذه الاحتجاجات، تحت طائلة حكم الإعدام.
وهذا الواقع يذكّر بأن رسالة القمع في أحداث "أبان" (نوفمبر الدامي) لم تُوجّه فقط في الشوارع، بل امتدت إلى محاكم الثورة، وغرف التحقيق، والسجون.
لماذا لم يُعرف العدد النهائي حتى الآن؟ بعد ست سنوات من نوفمبر 2019، يبقى غياب آلية فعالة لكشف الحقيقة، سواء داخل إيران أو على المستوى الدولي، العائق الأكبر أمام تحديد العدد النهائي للضحايا.
فالنظام لم ينشر أبدًا وثائق المستشفيات، أو قوائم القتلى، أو تقارير الطب الشرعي، أو الملفات القضائية الخاصة بهم.
كما أدى قطع الإنترنت، وحذف الأدلة المصوّرة، واعتقال الشهود، وتهديد العائلات، إلى ضياع جزء كبير من الشواهد المستقلة.
وفي هذه الظروف، لا تستطيع الجهات المستقلة سوى الاعتماد على شهادات العائلات والوثائق المحلية وبيانات الأحوال المدنية؛ وهي بيانات تسمح فقط بتقديم "حد أدنى موثّق" لا "رقم نهائي"، وهو ما يفسّر بقاء التباين قائماً.
إن الفجوة بين الأرقام الرسمية، التي يعلنها النظام وبين الأرقام التي تقدّمها المصادر المستقلة ليست اختلافًا تقنيًا؛ بل هي انعكاسٌ لحجب الحقيقة بشكل ممنهج وللسياسات القمعية.
إن جمع بيانات الأحوال المدنية، والروايات الميدانية، وشهادات العائلات، وتقارير حقوق الإنسان يقدم صورة واضحة: "نوفمبر 2019" كان واحدًا من أكثر موجات القمع دموية في تاريخ النظام الإيراني، وعدد ضحاياه الحقيقي أكبر بكثير مما اعترف به النظام.
ولا تُعد مطالبة العائلات بالعدالة مجرد محاولة لتوثيق عدد القتلى، بعد ست سنوات على نوفمبر 2019، بل هي محاولة للحفاظ على حقيقة يسعى النظام الإيراني إلى محوها.
وقد واصل كثير من هذه العائلات، مثل عائلات الضحايا في العقود الماضية، المطالبة بالعدالة، رغم التهديدات المستمرة من الأجهزة الأمنية للنظام الإيراني، وحوّلوا الحداد والفجيعة إلى فعل سياسي ومدني.
وتُظهر تجارب الدول، التي انتقلت بعد فترات القمع إلى مسار العدالة الانتقالية أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتجاوز جراحه الجماعية، دون كشف الحقيقة كاملة، وتوثيق أسماء جميع الضحايا، ومحاسبة الآمرين والمنفذين.
إن مطالبة عائلات ضحايا نوفمبر 2019 بالعدالة اليوم جزء من هذا المسار؛ مسارٍ سيشكّل مستقبلاً أساس أي آلية لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة.
ويظل "نوفمبر 2019" ملفًا مفتوحًا، لن يُغلق إلا بتشكيل آلية لكشف الحقيقة ونشر الوثائق الرسمية، فيما يبقى سؤاله المركزي قائمًا: "كم عدد من قتلهم النظام الإيراني في تلك الأحداث؟".
أشار موقع "ديده بان إيران" اليوم السبت 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 إلى أن "تقنين المياه المعدنية" يشمل فرض قيود على البيع، بعدما ارتفع سعر العبوة الواحدة إلى 95 ألف تومان (نحو 8 دولارات)، في حين كان سعرها قبل أشهر يتراوح بين 50 و60 ألف تومان فقط.
كما ذكرت وسائل إعلام إيرانية- استنادًا إلى صور متداولة من المتاجر الكبرى- أنه تم فرض قيود على بيع عبوات المياه المعدنية للمواطنين.
وأفادت تقارير إلى أن تدهور جودة مياه الشرب في المدن، وزيادة الملوحة، وظهور روائح وطعم غير مستساغ في المياه الجارية، دفع كثيرًا من المواطنين إلى الاعتماد على المياه المعدنية للشرب.
وأضاف موقع "ديده بان إيران" أن الارتفاع الحاد في الطلب تسبب في نقص خطير في سوق المياه المعبّأة، ما دفع المتاجر إلى تطبيق سياسة "تقنين" بيعها.
وفي الأيام الأخيرة، تكشفت أبعاد جديدة من أزمة نقص المياه في إيران، وهي أزمة تُنذر بخطر كبير على الحياة اليومية للمواطنين وعلى استمرار نشاط كثير من الصناعات.
وذكر "ديده بان إيران" في تقريره أن الارتفاع في الأسعار لا يعود فقط إلى زيادة الطلب، بل أيضًا إلى عوامل أخرى مثل نقص الموارد المائية، وانخفاض تدفق الينابيع، وهبوط مستويات المياه الجوفية، وارتفاع تكاليف الطاقة اللازمة للاستخراج والتعبئة لدى شركات إنتاج المياه المعدنية.
ويجري فرض سياسة التقنين على المواطنين في الوقت الذي قامت فيه إيران، خلال السنوات الأخيرة، رغم الأزمة الشديدة في الموارد المائية، بتخزين كميات كبيرة من المياه المعدنية لاستخدامها في فعاليات حكومية.
ففي أغسطس (آب) 2024، صرّح برويز فتّاح، رئيس "لجنة تنفيذ أمر الإمام"، بأن هذه المؤسسة قامت بتخزين 16 مليون زجاجة مياه معدنية، إضافة إلى مليوني وجبة جاهزة من أجل مسيرة الأربعين.
وفي عام 2022، صرّح حسن بلارك، المستشار السابق للجنة المركزية للأربعين، بأن أكثر من 150 مليون زجاجة مياه معدنية تم تخزينها لموسم الأربعين، مشيرًا إلى أنه "إذا حضر 5 ملايين زائر، فسيحصل كل زائر على 30 زجاجة مياه".
كما صدرت في الأشهر الماضية تقارير حول رداءة جودة المياه المعدنية الإيرانية.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2025، أعلنت السلطات العُمانية منع استيراد المياه المعدنية من إيران، بعد وفاة شخصين نتيجة شرب "مياه معدنية إيرانية ملوثة".
وأكدت الجهات العُمانية، بعد إجراء الفحوصات على عينات من المنتج، وجود تلوث في الشحنة، وأمرت بسحب منتجات هذه العلامة التجارية الإيرانية من الأسواق.
كان سلوك النظام الإيراني في المجال البحري خلال العقدين الماضيين يتبع نمطاً ثابتاً نسبياً: الاحتجاز الممنهج للسفن في المياه الخليجية وبحر عُمان، عادة تحت عنوانين محدّدين؛ إمّا الادعاء بتهريب الوقود أو ارتباط السفينة بإسرائيل.
وفي العديد من الحالات، سعت طهران إلى تقديم هذه الإجراءات في إطار "تأمين الأمن ومكافحة المخالفات البحرية"؛ وهي رواية تتمتع بمرونة قانونية وتمكّن النظام الإيراني من إظهار أفعاله بأنها مبرَّرة في تعاطيه مع دول المنطقة والهيئات الدولية.
فعلى سبيل المثال، يُصنّف احتجاز الناقلات التي تحمل الوقود المهرّب في يوليو (تموز) من هذا العام وأغسطس (آب) من العام الماضي (القضايا المرتبطة بناقلة بيرل-جي أو شحنات الوقود المهرّب المزعومة في بحر عُمان) ضمن الفئة التي يسمّيها النظام الإيراني "مكافحة التهريب المنظّم".
وفي المقابل، يأتي احتجاز سفينة "إم إس سي أريس" في أبريل (نيسان) من العام الماضي بحجة أنّ السفينة "تابعة لإسرائيل" مثالاً آخر لهذا النمط الذي يستند إلى خطاب أمني-إقليمي.
وفي كلتا الفئتين، كان الهدف من تحركات النظام الإيراني إرسال رسالة قوة وسيطرة وردع في الممرات المائية الحيوية بالمنطقة، من دون أن تؤدي هذه الإجراءات بالضرورة إلى مواجهة مباشرة.
حادثة "تالارا": رسالة طهران الاستراتيجية في مضيق هرمز
لكن احتجاز ناقلة النفط "تالارا" في مضيق هرمز يختلف جذرياً من حيث طبيعته عن الفئتين السابقتين؛ فلا ادعاء بالتهريب طُرح حولها، ولا نُسبت إليها أي صلة بشبكات بحرية إسرائيلية.
وهذا الأمر يضاعف من أهمية الحادثة. فوفقاً لرواية المسؤولين الأميركيين، كانت الناقلة "تالارا" التي ترفع علم جزر مارشال تُبحر من ميناء عجمان في الإمارات نحو سنغافورة، عندما حاصرتها ثلاثة زوارق سريعة تابعة للحرس الثوري وأجبرتها على تغيير مسارها.
وتُظهر بيانات الطيران أنّ طائرة مسيّرة تابعة لسلاح البحرية الأميركي كانت تحلّق فوق المنطقة لساعات وقد سجّلت لحظة بلحظة عملية الاحتجاز. كما أن شركة إدارة الناقلة أعلنت أنّ اتصالها بالسفينة انقطع تماماً ولا تعرف وضعها الحالي.
كما وصف مركز عمليات التجارة البحرية في بريطانيا الحادث بأنه "نشاط حكومي محتمل". إنّ هذا المستوى من الوضوح في الرصد والتوثيق، ووقوع الحادثة في واحدة من أكثر النقاط الجيوسياسية حساسية في العالم، يؤكدان أنّ احتجاز "تالارا" كان خطوة محسوبة بالكامل، وليس حادثاً عرضياً أو ردّ فعل لحظي.
وإذا وضعنا احتجازات النظام الإيراني السابقة في فئتين واضحتين، هما التهريب وقضايا الارتباط بإسرائيل، فإن حادثة "تالارا" لا تندرج ضمن أي منهما، بل تبرز نمطاً ثالثاً: استخدام احتجاز ناقلات النفط كأداة ضغط جيوسياسي في اللحظات الإقليمية والدولية الحرجة.
وقد استُخدمت هذه الأداة بصورة متكررة بين عامي 2019 و2022، لكنها كانت أقل ظهوراً في الأشهر الأخيرة.
والآن، بعد الحرب التي استمرت 12 يوماً بين النظام الإيراني وإسرائيل، يبدو أن طهران أعادت تفعيل هذه الذراع. ففي هذه المرحلة الزمنية، تريد إيران إظهار أنها رغم ما تكبّدته من كلفة في الحرب المباشرة، فإنها ما زالت قادرة على تعطيل تدفق الطاقة العالمي وفرض كلفة استراتيجية على خصومها.
كما يجب اعتبار هذا الإجراء جزءاً من الرد غير المباشر للنظام الإيراني على الهجمات الأميركية ضد منشآته النووية في الصيف الماضي. وهو ردّ يتجنب المواجهة المباشرة، لكنه يبعث برسالة واضحة تماماً.
الرسالة الإقليمية: من الردع في هرمز إلى التلاقي مع الحوثيين
وفي هذا السياق، يُحتمل بجدية أن تكون حادثة "تالارا" مرتبطة بتداعيات ما بعد الحرب بين النظام الإيراني وإسرائيل. فبعد انتهاء الحرب، احتاجت طهران إلى إظهار أنها ليست في موقع ضعف، وأنها ما تزال قادرة على إظهار قدرتها العملياتية في مياه المنطقة.
واحتجاز ناقلة غير متهمة بالتهريب ولا ترتبط بإسرائيل مثالٌ واضح على "استعراض القوة دون تجاوز خطوط الحرب الحمراء".
وهذا الإجراء لا يخاطب أطراف الحرب الأخيرة فحسب، بل يوجّه أيضاً رسالة لدول المنطقة مفادها أنّ أمن مضيق هرمز – وهو الشريان الرئيسي لتجارة الطاقة في العالم – لا يمكن ضمانه من دون أخذ حسابات النظام الإيراني بعين الاعتبار.
وتحاول طهران عبر هذا التحرك الإيحاء بأنّ مرحلة ما بعد الحرب لا تزال تتأثر بقدرات إيران العملياتية في البحر، وأن أي تغيير في التوازن الإقليمي يجب أن يراعي هذه القدرة.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن تقييم الحادثة بمعزل عن الدور المتزايد للقوى الوكيلة للنظام الإيراني في المنطقة. ففي الأشهر الماضية، كانت هجمات الحوثيين ضد السفن في البحر الأحمر أحد أهم عوامل زعزعة استقرار تجارة الطاقة والبضائع. وهذه الهجمات التي استمدّت زخمها مباشرة من حرب غزة، أجبرت قطاعات واسعة من الشحن العالمي على تغيير مساراتها.
ومع عودة الحرس الثوري إلى سياسة الاحتجاز في هرمز، يبدو أن النظام الإيراني يفتح جبهة جديدة موازية لجبهة البحر الأحمر.
فإذا كان البحر الأحمر ساحة عمليات الحوثيين، فإن مضيق هرمز هو ساحة عمليات النظام الإيراني مباشرة. ويمكن لهذا التلاقي أن يفرض ضغطاً متزايداً على مسارات الطاقة العالمية، ويضع الدول المستوردة للطاقة من أوروبا إلى شرق آسيا أمام لاعب متكامل من محور إيران.
كما يحمل احتجاز "تالارا" رسالة مهمة أخرى: إن النظام الإيراني في الأشهر الأخيرة، خلافاً للسنوات الماضية، يتحرّك نحو إجراءات بلا أي غطاء قانوني.
ففي احتجازات مزعومة تتعلق بالتهريب، كان هناك على الأقل ادعاء قانوني-قضائي؛ وفي القضايا المتعلقة بإسرائيل، كان هناك تبرير أمني. أما في قضية "تالارا"، فلا يوجد حتى هذا الغطاء الشكلي. وهذا يعني أن طهران تتعمّد الابتعاد عن استراتيجية "الغموض القانوني" لتتجه نحو "إظهار الإرادة العملياتية دون تبرير"؛ وهو سلوك يميّز عادة الفترات الانتقالية ومرحلة التوترات العميقة.
وفي المحصلة، يجب اعتبار احتجاز ناقلة النفط "تالارا" – إذا أُعلن رسمياً من قبل النظام الإيراني – جزءاً من عودة النظام إلى استراتيجية الضغط البحري؛ وهي استراتيجية تُستخدم للردع، والمناورة السياسية، وإرسال الرسائل إلى الخصوم.
وتُظهر الحادثة أن طهران بعد حرب الـ12 يوماً لا تنوي الدخول في مرحلة السكون، بل تسعى إلى إعادة تعريف المعادلة الأمنية في المنطقة بشكل فعّال.
وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يدخل مضيق هرمز وبحر عُمان مرحلة جديدة من عدم الاستقرار. مرحلة يكون فيها الحرس الثوري في هرمز والحوثيون في البحر الأحمر مكمّلين لبعضهما البعض، وتتعرض فيها الممرات البحرية من المتوسط إلى المحيط الهندي لضغط محور يهدف إلى استعادة حصة ودور النظام الإيراني في التوازنات الإقليمية والدولية.
بعد ست سنوات على احتجاجات "نوفمبر الدامي" 2019، والتي اندلعت إثر الزيادة المفاجئة في أسعار البنزين، تعود مخاوف الإيرانيين مجددًا من رفع أسعار الوقود، بعد حديث حول ذلك من قِبل مسؤولي النظام، كما أن تركيبة الفقر والتضخم وأزمات المياه والكهرباء والغاز تثقل كاهل حياتهم.
وفي 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أعلنت حكومة الرئيس الإيراني آنذاك، حسن روحاني، زيادة مفاجئة بنسبة 200 في المائة بسعر البنزين، وهو قرار أثار موجة من الغضب والاحتجاج في جميع أنحاء البلاد.
وخلال أقل من أسبوع، شهدت مئات المدن في 29 محافظة تجمعات احتجاجية ضد النظام. بدأت الاحتجاجات بمطالب معيشية، لكنها سرعان ما تحولت إلى شعارات سياسية مناوئة للحكومة.
وأكدت منظمات حقوق الإنسان، مثل العفو الدولية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أن قوات الأمن أطلقت النار مباشرة على رؤوس وصدور وعيون المحتجين من أسطح المباني والمروحيات.
وفي 16 نوفمبر، دافع المرشد الإيراني، علي خامنئي، عن رفع أسعار الوقود ووصف المحتجين بـ "الأشرار والأعداء". وتلا ذلك قطع الإنترنت على نطاق واسع وتصاعد القمع ضد المحتجين.
وحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان، فقد اعتُقل ما لا يقل عن 8600 شخص في مختلف المحافظات الإيرانية خلال تلك الاحتجاجات.
وأكدت المحكمة العليا حكم الإعدام على محمد جواد وفائي ثاني، أحد محتجي نوفمبر 2019، فيما كانت عمليات الاستجواب في العديد من هذه القضايا مصحوبة بالتهديد والاعتداء وأشكال أخرى من التعذيب.
وأُفرج عن كثيرين لاحقًا بكفالات، لكن عددًا من المعتقلين حُكم عليهم بالسجن الطويل أو بالإعدام في محاكمات جائرة، غالبًا دون إمكانية الوصول إلى محامٍ من اختيارهم، وبالاعتماد على اعترافات تحت الضغط.
وبعد ست سنوات، لا تزال عائلات الضحايا تطالب بالكشف عن الحقيقة ومعاقبة المسؤولين عن المجزرة، ولا تزال عبارة "نوفمبر مستمر" تُكتب على قبور الضحايا.
العودة إلى نقطة الانفجار
في خريف 2025، تعود نفس الهمسات مجددًا. تقول حكومة الرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشکیان، إنها لا تخطط لزيادة الأسعار، لكن مشروع "تعدد أسعار البنزين" مطروح في البرلمان والحكومة.
وأعلن عضو لجنة الاقتصاد في البرلمان الإيراني، حسين صمصامي، في 10 نوفمبر الجاري، أن سعر البنزين سيصل إلى خمسة آلاف تومان للتر الواحد، وأن القرار سيُنفذ. وأضاف أن الحكومة لا تدفع أي تكلفة لإنتاج البنزين، بل تبيعه للمصافي بخفض 5 في المائة عن سعره في المنطقة وتشتريه بالسعر نفسه.
وأكد أن "التكلفة الحقيقية للحكومة لكل لتر بنزين أقل من ألفي تومان".
في المقابل، قال نائب الرئيس الإيراني للشؤون التنفيذية، محمد جعفر قائم بناه، في 4 نوفمبر الجاري: "إن اللتر الواحد الذي يضعه الناس في سياراتهم يكلف الحكومة 34 ألف تومان، لكن نبيعه لهم بألف وخمسمائة أو ثلاثة آلاف تومان".
وحذر عدد من النواب المحافظين، في 9 نوفمبر الجاري، من تبعات زيادة الأسعار. كما أشار نائب رئيس لجنة الطاقة في البرلمان الإيراني، فرهاد شهرکی، في الثامن من الشهر الجاري أيضًا، إلى نفاد الميزانية المخصصة لاستيراد البنزين في الأشهر الأولى من العام، وأن الحكومة لا تمتلك العملة اللازمة للشراء.
وفي 4 نوفمبر، أعلنت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية، فاطمة مهاجراني، أن الحكومة لم تتخذ قرارًا بزيادة سعر البنزين المخصص، وسيظل يُباع بالأسعار الحالية.
قال پزشکیان، الذي كان قد أكد خلال المناظرات الانتخابية "لن نرفع سعر البنزين"، في الأول من آبان إن: "سعر البنزين أرخص حتى من الماء، وفي الواقع لا شكّ في رفع سعره".
وردت هذه التصريحات في وقت أذنت فيه حكومة پزشکیان في الأشهر الأخيرة برفع أسعار بعض السلع الاستهلاكية؛ ومن ذلك زيادة سعر الخبز التي أثارت انتقادات واسعة.
وقبل ذلك، في 19 مهر، نشرت عدة وسائل إعلام داخل إيران صورًا لمصوّبة صدرت في 27 شهریور عن هیأت الوزراء، تفيد بأن حكومة الجمهورية الإسلامية وضعت إطارًا جديدًا لرفع أسعار البنزين وسياسات مرتبطة باستهلاك الوقود.
وحذّر خبراء الاقتصاد من أن أي رفع في أسعار الوقود في ظلّ الظروف التضخّمية الراهنة قد يثير موجة جديدة من السخط والاحتجاج الشعبي.
في اقتصادٍ يعاني في الوقت نفسه من أزمة الطاقة وركودٍ عميق، باتت السياسات السعرية أكثر من أيّ وقت "سياسية ومحفوفة بالمخاطر".
التضخّم والفقر وتآكُل القدرة المعيشية
حذّر فرشاد مومني، الاقتصادي، في 8 نوفمبر الجاري، في مقابلة مع "إيران إنترناشيونال" من عواقب رفع سعر البنزين، معتبراً أن الادّعاء بأن "السياسة الصادمة" (سياسة "العلاج بالصدمة") ستُقلِّص عجز الموازنة هو "كذبة كبيرة".
وشدّد على أن رفع سعر البنزين يَضُرّ بالدرجة الأولى الشرائح الدنيا التي لا تملك سيارات. وتعكس هذه الرؤية قلقًا واسعًا لدى الخبراء الذين يحذرون من أن سياسات الصدمة في ظلّ تضخّم مرتفع تزيد الفجوة الطبقية.
وقال الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي المُقيم في ستوكهولم، أحمد علوي، لـ "إيران إنترناشيونال"، في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: "في اقتصادٍ يعاني معدلات تضخم عالية وانخفاض نمو الأجور الحقيقية، فإن أي تغيير في أسعار الطاقة، خصوصًا البنزين والديزل، سيؤثّر أبعادًا متعدِّدة على مستويات المعيشة والإنتاج".
كما قال الخبير الاقتصادي، مرتضى افقه، في 15 أكتوبر الماضي، أيضًا لموقع "نشان تجارت": "يبدو أن الحكومة لم تعد تملك أموالًا لاستيراد البنزين، والشعب أيضاً لم يعد يحتمل تراكم موجات التضخّم السنوية".
من محطّات الوقود إلى انقطاع التيار والماء: أزمة أوسع في الطاقة
إيران اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود من حكم النظام، لا تواجه مشكلة البنزين فحسب؛ فطيف من النّقائص والتّآكل في البُنى التحتية دفع البلاد إلى حافة انهيار قطاع الطاقة.
وشهدت انقطاعات في التيار الكهربائي صيفًا، وهبوطًا في ضغط الغاز شتاءً، وجفافًا مزمنًا ونقصًا حادًا في المياه على امتداد البلاد. ويقول الخبراء إن هذه الأزمة ليست نتيجة العقوبات فقط، بل نتيجة سنوات طويلة من سوء الإدارة والفساد في شبكات التوزيع والاستثمار.
وأدّى الجفاف وانخفاض منسوب السدود إلى شلّ الزراعة في عشرات المدن، وأُدرج تقنين مياه الشرب في كثير من المناطق على جدول الحياة اليومية. كما أصبح نقص الطاقة قضيّة تتعدّى الأرقام الاقتصادية لتصبح قضية وجودية واجتماعية تؤثر مباشرة على حياة ملايين الإيرانيين.
وفي هذا السياق، تواجه الحكومة الخيار الصعب بين رفع سعر البنزين مع مخاطر إشعال احتجاجٍ شعبي كبير وتكرار أحداث "نوفمبر الدامي" أو الإبقاء على الأسعار ودفع كلفة تفاقم التضخم عبر طباعة المزيد من النقود وزيادة القاعدة النقدية.
ظلّ "نوفمبر الدامي" على قرارات اليوم
في هذا المناخ الملبّد، نبه نواب البرلمان إلى "خطر تكرار الفواجع السابقة"، وذكّر مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي بأن تجربة "نوفمبر الدامي" لا تزال راسخة في الذاكرة الجماعية.
وأشار مراقبون إلى أن السلطات عززت شبكات المراقبة الرقمية، وزادت من استخدام الكاميرات الذكية وشرعت في موجات اعتقالات؛ وهي إجراءات يرى البعض أنها تهدف إلى قمع أي بادرة تجمع أو صوت احتجاجي قبل أن يصل إلى الشارع.
انفجارٌ محتمل
مع ذلك، يحذّر علماء الاجتماع من أن مزيج الفقر ونقص الماء والغضب المكتوم قد يحوّل أي قرار اقتصادي إلى شرارة سياسية. في مجتمعٍ بلغت قدرة صموده الاقتصادية أدنى مستوياتها، قد يصبح أي تغيير طفيف في سعر البنزين أو اضطراب في إمدادات الماء والكهرباء علامة فاصلة بين هدوءٍ هشّ وتوترٍ اجتماعي واسع.
وفي الأسابيع الأخيرة، تزامنًا مع تصاعد النقاشات حول رفع سعر الوقود، سُجّلت موجة جديدة من استدعاءات واعتقالات وتفتيش منازل صحافيين وكتّاب وباحثين ونشطاء اجتماعيين وعمال في مدن مختلفة.
ويرى ناشطون عماليون أن اعتقال مؤيدي الطبقة العاملة ومناضليها دون مبرّر هو دليل على أن قرارات تُعِدّ لإحداث أثر مباشر في جيوب الناس وسلال طعامهم.
ويصف المراقبون هذا السلوك بأنه جزء من نمط متكرّر: تُسبق قرارات اقتصادية كبرى بتدابير أمنية، كأنّ السلطة تجهّز نفسها لمواجهة الاحتجاج بدل الحوار مع المجتمع.
ذكرت وكالة "رويترز" أنّه في الوقت الذي تظهر فيه مؤشرات على تخفيف القيود الاجتماعية في مدن إيرانية مختلفة، وسّع النظام الإيراني في المقابل نطاق القمع السياسي، في مسارٍ قال ناشطون وبعض المسؤولين الإيرانيين السابقين إنه بلغ مستوى غير مسبوق من الشدة.
وقالت "رويترز" في تقريرها التحليلي الصادر اليوم الخميس 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، إنّ شوارع طهران اليوم تُظهر مشهداً مختلفاً عن السنوات السابقة، حيث النساء غير المحجّبات يسِرن بحرية أكبر، والشباب يرتادون المقاهي دون تشدّد، وتُقام حفلات موسيقية محدودة، ما يعكس صورة متغيّرة نسبياً عن الماضي.
وفي هذا السياق، أقيم مساء 7 نوفمبر في طهران حفل رسمي لإزاحة الستار عن تمثال جديد في ميدان انقلاب تحت عنوان "ستركعون أمام الإيرانيين مجدداً"، من دون فرض قيود تتعلّق باللباس أو الحجاب الإجباري على المشاركين في الفعالية.
لكن في الوقت ذاته، يتواصل على نطاق واسع اعتقال واستدعاء وتهديد الصحافيين والطلاب والمحامين والناشطين المدنيين.
وقال محمد خاتمي، رئيس الحكومة الإصلاحية الأسبق، في هذا الشأن مؤخراً: "بعد الحرب التي استمرّت 12 يوماً، كان متوقعاً أن تُتخذ خطوات لتقدير صمود الشعب من خلال انفتاح أكبر، لكن في كل هذه المجالات، إن لم يكن الوضع قد ازداد سوءاً، فهو لم يتحسن بالتأكيد".
وأضاف خاتمي: "عمليات الاستدعاء والتحقيق وحتى محاكمة العديد من السياسيين وأصحاب الفكر والإعلاميين والشخصيات البارزة، ازدادت بشكل لافت".
وأبلغ أربعة ناشطين داخل إيران وكالة "رويترز" أنّ هدف النظام من هذه الإجراءات هو "زرع الخوف ومنع تشكّل احتجاجات جديدة".
كما نقلت الوكالة عن ثلاثة مسؤولين إيرانيين ومسؤول إصلاحي رفيع سابق قولهم إنّ هذا النمط المزدوج "محسوب بدقة"، إذ يجمع بين تخفيف الضغط الاجتماعي لتهدئة الرأي العام في ظل الأزمة الاقتصادية، وزيادة الضغط السياسي لمنع أيّ موجة غضب شعبية في الشارع.
وقال ألكس وطن خاه، مدير برنامج إيران في معهد "ميدل إيست إنستيتيوت": "هذا التناقض مقصود؛ إنه نوع من صمام الأمان الاجتماعي مع وضع سقف صلب فوق أي شكل من أشكال المعارضة الحقيقية".
وبحسب تقرير "رويترز"، فإنّ النظام الإيراني، بعد الهجمات التي شنّتها إسرائيل والولايات المتحدة خلال الحرب التي استمرّت 12 يوماً، يواجه واحدة من أكثر الفترات تعقيداً منذ ثورة عام 1979.
ففي تلك الحرب، تعرّضت عدة مواقع نووية وعسكرية لأضرار جسيمة، كما ضعفت شبكة الجماعات المدعومة من إيران في المنطقة من غزّة إلى لبنان والعراق.
وفي الوقت ذاته، أدى انهيار قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدّلات التضخم، ونقص الطاقة، إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية.
وقد أوقفت الحكومة الإيرانية تنفيذ قانون "الحجاب والعفاف" الذي أقرّته سابقاً التيارات المتشدّدة، وقالت مصادر مطلعة إنّ الأجهزة الأمنية وافقت على هذه التغييرات الاجتماعية باعتبارها "إدارة لحالة السخط الشعبي".
لكن في المقابل، وصلت عمليات الإعدام في إيران إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1989.
وقال مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إنّه حتى 21 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2025، جرى تنفيذ ما لا يقل عن 1176 حكماً بالإعدام في إيران، أي بمعدل أربع حالات يومياً.
ونقلت "رويترز" عن ناشط مدني اعتُقل في احتجاجات عام 2019 قوله: "الضغوط ازدادت، وتهديد العائلات واستدعاء النشطاء واعتقال الطلاب ما زال مستمراً. النظام يريد إسكات أي صوت معارض".
وبعد الحرب التي استمرّت 12 يوماً، بدأت السلطة القضائية بمحاكمات سريعة للمتهمين بـ"التعاون مع إسرائيل"، فيما أقرّ البرلمان قوانين جديدة لزيادة العقوبات المتعلقة بالتجسّس والأنشطة الإلكترونية.
وقال مسؤول إصلاحي سابق قضى سنوات في السجن بتهمة "العمل ضد الأمن القومي": "النظام يخشى فقدان السيطرة على السلطة، وهو يشعر في الوقت نفسه بضغط داخلي وخارجي متزايد".
وأشار التقرير إلى أنّ أكثر من 21 ألف شخص اعتُقلوا خلال الحرب وبعدها، من بينهم صحافيون وناشطون مدنيون وأفراد من الأقليات القومية والدينية.
كما أفادت تقارير حقوقية بأنّ أفراداً من المجتمع البهائي اعتُقلوا بتهم تتعلق بـ"التجسّس لصالح إسرائيل"، وصودرت ممتلكات بعضهم خلال المداهمات الأمنية.
ومع استمرار الجمود في المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة وعودة عقوبات مجلس الأمن، يخشى المسؤولون الإيرانيون من أن يؤدي فشل الدبلوماسية إلى هجوم إسرائيلي جديد.
وبحسب قول وطن خاه، فإنّ استراتيجية المرشد الإيراني، تقوم على "الإبقاء على باب الدبلوماسية موارباً في الخارج، وفي الداخل توسيع هامش الحرية الاجتماعية المحدودة والمراقَبة مقابل تشديد القمع السياسي".
ويرى محللون أن "الهدوء الاجتماعي" الحالي قد يكون مؤقتاً، لكن القمع السياسي يزداد عمقاً يوماً بعد يوم، وهو التناقض الذي تصفه "رويترز" بأنه "وجه إيران الراهن تحت حكم النظام الإيراني".
أفاد تقرير حديث لشرطة المرور في طهران بأن أعلى نسبة من ضحايا الحوادث المرورية المميتة في العاصمة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) كانت في الفئة العمرية ما بين 20 و30 عامًا، إذ شكّل هؤلاء 35 في المئة من إجمالي الوفيات.
وأشار موقع "نورنيوز" الإخباري في تقرير له إلى أنّ "اندفاع الشباب، والانفعال اللحظي، وعدم الاكتراث بالتحذيرات المرورية" من أبرز سمات هذه الفئة العمرية، مضيفًا أنّ إحصاءات شرطة المرور "تقدّم صورة مقلقة عن التهور ومخالفة القوانين بين الجيل الشاب في العاصمة". وفي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) هذا العام، كان موقع "دیده بان إيران" قد ذكر أنّ ارتفاع أسعار الدراجات النارية، إلى جانب الضغوط المعيشية، دفع عددًا من شباب العاصمة إلى استئجار دراجات والعمل كموزّعين.
وأضاف موقع "نورنيوز" في تقريره: "بعد فئة العشرين إلى الثلاثين عامًا، تأتي الفئة ما بين الأربعين والخمسين بنسبة 24 في المئة، ومن هم فوق الخمسين بنسبة 17 في المئة. وهذا يعني أن نحو نصف الضحايا هم دون الأربعين عامًا؛ وهو مؤشر على أزمة ثقافية وتعليمية في مجال القيادة داخل المدن".
وتُظهر الإحصاءات كذلك أنّ سائقي السيارات يشكّلون 47 في المئة من ضحايا المركبات في حوادث طهران خلال شهر أكتوبر، في حين بلغت نسبة سائقي الدراجات النارية 26 في المئة.
وبحسب "نورنيوز"، فإن 27 في المئة من الضحايا الآخرين هم من المشاة الذين يقعون ضحية "أخطاء السائقين وضعف البنية التحتية للسلامة".
وحذّر الموقع من أنّ تقرير شرطة المرور في طهران يشير إلى أنّ "الخطر لا يكمن خلف المقود فقط، بل يترصّد المارة حتى على الأرصفة".
وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الوفيات الكثيفة الناجمة عن حوادث السير من القضايا المقلقة الدائمة في المجتمع الإيراني، مسلّطة الضوء على أوجه القصور الهيكلية في إدارة قطاع النقل.
ويرى المنتقدون أنّ السيارات رديئة الجودة، والطرق غير الآمنة، وغياب التوعية الفعّالة، من أبرز أسباب هذه الأزمة، ويعدّونها نتيجة للتقصير وسوء الإدارة من جانب سلطات النظام الإيراني.
الطرق السريعة مسرح 79 في المئة من حوادث طهران المرورية
ذكر موقع "نورنيوز" في تقريره أنّ القسم الأكبر من الحوادث المرورية في طهران خلال أكتوبر– نحو 79 في المئة– وقع في الطرق السريعة، التي تحوّلت إلى بؤر رئيسية للحوادث المميتة بسبب "السرعة العالية، والتهور، والمناورات الخطيرة".
وبحسب تقرير شرطة المرور في طهران، فإنّ أغلب الضحايا لقوا حتفهم بين الساعة الثانية ظهرًا والعاشرة ليلًا، وهي الفترة التي يشهد فيها السير ازدحامًا شديدًا، وتتزايد خلالها حالات الإرهاق الذهني لدى السائقين، إضافة إلى استعجالهم للوصول إلى وجهاتهم، ما يرفع احتمال وقوع الحوادث بشكل كبير.
أما نحو 24 في المئة من الحوادث فقد وقعت بين الساعة العاشرة ليلًا والسادسة صباحًا، ويُعزى ذلك أساسًا إلى "السرعة المفرطة، والنعاس، واستهلاك المنبّهات أو الكحول".
وخلص موقع "نورنيوز" إلى أنّ جذور هذه الأزمة تكمن في "غياب التدريب الفعّال على القيادة وثقافة المرور في المدارس والجامعات"، و"انعدام الرقابة الرادعة في تطبيق القوانين"، و"عدم الانتباه للحالة النفسية والعقلية للسائقين الشباب".
وفي مارس (آذار) 2025، أعلن محمد إسماعيل قيداري، القائم بأعمال رئيس جامعة العلوم الطبية في بهشتي، أنّ حوادث السير تأتي في المرتبة الثالثة بين أسباب الوفاة في إيران، بعد أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان.
ووفقًا لإحصاءات شرطة الطرق في سبتمبر (أيلول) 2024، يُقتل يوميًا في إيران ما بين 45 و50 شخصًا في حوادث السير، فيما يُصاب 100 شخص بإعاقات دائمة.