زيارة ترامب.. تهديد أخطر من قاذفات "B-52" على خامنئي

وضعت زيارة دونالد ترامب إلى المنطقة والاستقبال الباذخ الذي حظي به من قِبل قادة الدول العربية، النظام الإيراني ومسؤوليه في موقف غير مسبوق من الانفعال والدفاع.
محلل سياسي - إيران إنترناشيونال

وضعت زيارة دونالد ترامب إلى المنطقة والاستقبال الباذخ الذي حظي به من قِبل قادة الدول العربية، النظام الإيراني ومسؤوليه في موقف غير مسبوق من الانفعال والدفاع.
ورغم أن السياسات الأميركية كانت دائمًا تُشكّل ضغطًا على النظام الإيراني، فإن الزيارة الأخيرة لترامب والصدى الواسع الذي لاقته في الإعلام والرأي العام، خلّفت تأثيرًا أعمق وأكثر خطرًا من قصف قاذفات "B-52" الأميركية أو قنابلها الخارقة للتحصينات على خامنئي ونظام الجمهورية الإسلامية.
يكمن سبب هذا التأثير في قوة الصورة والسرد والمقارنة المباشرة بين تقدم دول مثل السعودية والإمارات وقطر، وبين الوضع الحالي في إيران.
وقد أغضبت هذه الزيارة مسؤولي النظام الإيراني بحق، لأنها قدّمت صورة من التنمية والرفاهية والأمن والتخطيط للمستقبل في دول الجوار الجنوبي لإيران، وهي صورة تتناقض تمامًا مع الواقع اليومي المؤلم للمجتمع الإيراني، مثل الانقطاعات المتكررة للكهرباء والماء، وازدياد الفقر، والمشكلات الصحية والتعليمية، وتآكل البنى التحتية.
إن الاستقبال الفاخر الذي حظي به ترامب من الدول العربية، ومشاركة رموز بارزة من شركات التكنولوجيا والاقتصاد العالمية، والنقاشات حول مستقبل يعتمد على الذكاء الاصطناعي، والعقود الاستثمارية الضخمة، كل ذلك- إلى جانب التغطية الإعلامية الواسعة ووسائل التواصل الاجتماعي- رسم صورة واضحة للنجاح والتقدم الحقيقي، وهي صورة لم تعد قابلة للإخفاء عبر الرقابة الإعلامية في الداخل الإيراني.
وبينما سعت إيران دائمًا إلى تصوير الدول الخليجية على أنها اقتصادات أحادية تعتمد فقط على النفط، أظهرت الصور والبيانات المنشورة أن هذه الدول لم تُحدث تحوّلًا جذريًا في بنيتها التحتية فحسب، بل إنها تحقق تقدمًا ملحوظًا أيضًا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والنقل الجوي، والرياضة، والثقافة، والسياحة.
في المقابل، ما يُرى في إيران هو تراكم الأزمات؛ 57 مليون شخص باتوا مؤخرًا بحاجة إلى سلع تموينية مدعومة، نصف الطائرات المدنية الإيرانية أصبحت خارج الخدمة، والمطارات تحولت إلى مقابر لطائرات متهالكة، وملايين الإيرانيين لا يملكون وصولًا مستقرًا إلى مياه الشرب، بينما أصبحت انقطاعات الكهرباء ظاهرة عامة.
من جانب آخر، فإن أمثلة مؤلمة، مثل وفاة مهندسين متقاعدين من صناعة الطيران الإيرانية جراء عطل في معدات هبوط طائرة بوينغ متهالكة، بالتزامن مع توقيع قطر عقدًا مع شركة بوينغ لشراء 210 طائرات مدنية جديدة، تُظهر أن الوضع الفني والبشري في إيران قد بلغ مرحلة الخطر. هذان الشخصان أُجبرا على مواصلة العمل، بعد تقاعدهما، بسبب تدني المعاشات التقاعدية.
مقارنة لا مفر منها
الصورة التي رسمتها زيارة ترامب للمنطقة خلقت مقارنة واسعة في أذهان الإيرانيين. كثيرون باتوا يتساءلون بحسرة: لولا وجود النظام الحالي، ألم يكن بإمكان إيران أن تحقق تقدمًا موازيًا لجيرانها الجنوبيين، أو حتى تتجاوزهم؟ لكن الواقع اليوم، رغم ما تمتلكه إيران من موارد طبيعية وبشرية وتاريخية غنية، هو أن قطاعًا واسعًا من الشعب يعيش في فقر ويأس وغياب لأي أفق مستقبلي.
يحاول مسؤولو النظام الإيراني التقليل من شأن دول المنطقة باستخدام تعبيرات مثل "التقدم الحقيقي" مقابل "التقدم الظاهري"، إلا أن الإيرانيين باتوا يرون الفوارق بأعينهم من نوعية السيارات التي يركبها الناس، إلى جودة التعليم والصحة، وحتى مستوى الفرق الرياضية.
بينما تقوم السعودية بتطوير كرة القدم لديها باحتراف من خلال جذب رونالدو وعشرات اللاعبين الآخرين، وتتألق في بطولات آسيا، تعجز إيران عن التأهل للأولمبياد وتُهزم في المنافسات الآسيوية.
زيارة ترامب وضعت النظام الإيراني في موقف ضعف رمزي وإعلامي شديد.
الصورة التي قُدّمت عن التقدم والتفاعل الإيجابي لجيران إيران مع العالم، حطمت رواية النظام التي فُرضت على الإيرانيين لسنوات من خلال الرقابة. لقد خسرت إيران مجددًا معركة الرواية أمام شعبها.
سجلٌ للحكم
وإذا كان معيار الحكم الجيد هو تحسين جودة حياة الناس، فإن سجل نظام طهران، بناءً على مؤشرات مثل توفير المياه والكهرباء والغاز والأدوية والنقل والعمل والمعاشات الكريمة، يُعتبر سجلًا فاشلًا.
وفي حين نرى ازديادًا في مستوى الرفاهية والرضا العام في دول المنطقة، تواجه إيران أزمة شاملة.
ومن المثير للسخرية أن إيران، في مواجهة الانتقادات، تدّعي أحيانًا أن عقوبات ترامب لم تكن مؤثرة، وفي أحيان أخرى تُحمّلها كامل المسؤولية عن الأزمات. هذا التناقض في الخطاب لا يُقنع المواطنين، بل يعمّق الفجوة بين الدولة والشعب.

بدأت بوادر التصدع تظهر في الإجماع الأولي بإيران، الداعم للمفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، إذ أعرب بعض المتشددين عن قلقهم إزاء ما يرونه تصاعدًا في لهجة واشنطن.
وقد حذر البعض من أنه لا أحد يتوقع ما سيفعله الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وقد يغيّر مساره في أي لحظة، بينما ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، واصفين المحادثات بأنها "فخ". كما طُرحت اتهامات بالتخريب من الداخل، موجهة إلى أولئك الذين يُعتقد أنهم يستفيدون من استمرار العقوبات.
ما الذي يقوله المشككون؟
قال المحلل المحافظ البارز، فؤاد إيزدي، في مقابلة مع موقع "ديده بان إيران" يوم الخميس 8 مايو (أيار) الجاري: "إن الحكومة الأميركية ستعرقل رفع العقوبات عن مبيعات النفط الإيرانية والتعاملات المصرفية الدولية".
وحذّر إيزدي من أنه حتى لو تم التوصل إلى اتفاق، فإن تخفيف العقوبات بشكل ملموس غير مرجح، بسبب وجود تيار متشدد راسخ في واشنطن يعمل على تقويض أي اتفاق.
وقد زادت تعليقات الرئيس ترامب وفريقه، إلى جانب تدخلات من أمثال السيناتور تيد كروز والنائب مايك لولر، من المخاوف في طهران، ما دفع شخصيات متشددة مثل إيزدي إلى كسر صمتها المتحفظ.
وأضاف المحلل، الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة: "قد يهاجم الأميركيون إيران حتى أثناء المحادثات أو بعدها، إذا اعتقدوا أن الكلفة ستكون ضئيلة. لقد فعلوا الشيء نفسه مع ليبيا".
ما علاقة ليبيا بالأمر؟
تخلى الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عن البرنامج النووي والصاروخي لبلاده عام 2003، في محاولة لتحسين العلاقات مع الغرب.
ولكن من وجهة نظر طهران، فقد تم "خيانته" بعد اندلاع احتجاجات شعبية في 2010 تحولت إلى ثورة مسلحة، مدعومة بغارات جوية من حلف "الناتو"، انتهت بمقتله بطريقة بشعة على يد المتمردين.
وقال النائب الإيراني السابق، إلياس نادران، لموقع "خبر أونلاين": "بعض الساسة الإيرانيين يعتقدون أننا إذا تخلينا عن برامجنا النووية والصاروخية، فإن الولايات المتحدة ستعاملنا كما تعامل السعودية. لكن في الواقع، سيعاملوننا كما عاملوا سوريا وليبيا".
وأضاف نادران أنه طالما أن إيران في حالة صراع مع إسرائيل، فلن يكون هناك تقارب مع الولايات المتحدة.
وتُشير تصريحاته إلى عودة الخطاب المتشدد التقليدي، الذي يساوي بين نزع السلاح والضعف أمام عداء أميركي لا يتزحزح، مما يسرّع من سقوط النظام الإيراني.
مَنْ المتهم بالتخريب؟
يتهم بعض المعتدلين والوسطيين رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني السابق، علي شمخاني، بتسريب تفاصيل سرية عن المحادثات الجارية.
وتكتسب هذه الاتهامات مزيدًا من المصداقية؛ لأن نجل شمخاني متورط- حسب معارضيه- في تصدير النفط الإيراني، وقد تتضرر أعماله إذا رُفعت العقوبات.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، نشر موقع إلكتروني مقرب من شمخاني تقريرًا يحتوي على بعض تفاصيل المحادثات الجارية بين طهران وواشنطن، بما في ذلك ادعاء بأن الحكومة الأميركية قبلت بأن إيران لا تملك أسلحة نووية.
وكتب موقع "انتخاب" الوسطي في افتتاحيته: "إن تسريب شمخاني زاد من الضغط، الذي يمارسه المحافظون الجدد في أميركا على ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، مما يعرّض المفاوضات للخطر".
ما مغزى هذه الانتقادات؟
رغم أن طهران تواصل محادثاتها الدبلوماسية الحذرة مع واشنطن، فإن هذه التصريحات العلنية تعكس نخبًا منقسمة تكافح للتوصل إلى توافق بشأن ما إذا كانت الدبلوماسية درعًا واقية أم فخًا محكمًا.
إن عودة المقارنات بليبيا، والتحذيرات من الحرب، والاتهامات بالتخريب، كلها تشير إلى قلق عميق بشأن مآلات هذه المفاوضات، ومصير النظام الإيراني نفسه.

في إيران، نادراً ما تكون الكوارث عشوائية. يمكننا أن ننظر إلى الكوارث في هذا النظام باعتبارها أكثر من مجرد موت ودمار؛ فهي في الحقيقة لحظات تكشف عن كيفية عمل السلطة.
وما يهم في مثل هذه اللحظات ليس مجرد نقل المعلومات، بل قدرة المجتمع والجماعات السياسية على صناعة السردية.
السردية التي تُنقذ الكارثة من النسيان والإنكار، وتحولها إلى أساس للفعل الجماعي، للمطالبة، ولإعادة بناء أفق السياسة.
ما تسعى إيران إلى فعله بعد كل كارثة هو تقديمها كحادثة عابرة، أو خطأ بشري، أو واقعة محدودة. لكن في الحقيقة، هذه الكوارث هي نتاج نظام يُنتج الكوارث بشكل منهجي؛ نظام قائم على الفساد البنيوي، والقصور المؤسسي، وهيمنة العناصر العسكرية، والحذف المنهجي لنُظم الإنذار، وقمع آليات المحاسبة. في هذا النظام، الموت والدمار ليسا استثناءً، بل نتيجة طبيعية لنمط الحكم.
حادثة ميناء رجائي واحدة من هذه اللحظات؛ كارثة كان من الممكن تفاديها، لو لم يكن النظام السياسي قد جنّد كل أركانه في خدمة الفساد وانعدام الشفافية. وعليه، ما حدث لم يكن مجرد حادثة، بل تجلٍّ لتشابك المؤسسات غير الخاضعة للمساءلة، والأولويات الأمنية، والاقتصاد الريعي.
جزء من الميناء كان تحت إشراف مؤسسة "المستضعفين"، والبضائع المخزنة كانت تابعة لمؤسسات مرتبطة بالحرس الثوري، وبعض موظفي الجمارك ساهموا في خلق مسار غير شفاف في التسجيل والحفظ.
وبالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير غير الرسمية إلى أن الانفجار ربما كان ناجماً عن وقود صلب للصواريخ، ما يكشف عن العلاقة المباشرة بين الهيكل العسكري والسياسات العسكرية.
هذا الترابط البنيوي بين القوة الاقتصادية-العسكرية والتهور في إدارة الأزمات يُظهر بوضوح كيف يكون البناء السياسي ذاته مولداً للكوارث.
قوة السرد واستعادة الرموز
ما حدث في ميناء رجائي تم التستر عليه بشكل منظّم. لم يُسمح لوزارة الصحة بنشر إحصائيات دقيقة للضحايا، وطُلب من الصحفيين المحليين عدم نشر أي تقارير حول الحادثة. حتى بعض العائلات المفجوعة لا تعرف حقيقة ما يجري.
هذا الصمت المفروض هو جزء من المشروع المعروف للنظام الإيراني في التعامل مع الأزمات: الإنكار، ومحو الشهود، وتثبيت سردية تُبعد اللوم عن البنية السياسية.
وعندما تكون المسألة سياسية، أي عندما يسلب نظام طهران حق الحياة من جزء من الشعب عبر الكارثة، لا يمكن أن يكون الرد إنسانياً أو عاطفياً فقط؛ بل يجب أن يكون رداً سياسياً، متماسكاً، ويركّز على المستقبل.
هذا الرد يجب أن يُقدَّم في إطار سردية موثّقة، مقنعة، وهادفة؛ سردية لا تكتفي بالاعتراف بأصوات المهمشين والناجين، بل تُحدّد الجذور البنيوية للكارثة: مؤسسات غير خاضعة للمحاسبة، موازنات أمنية، وتجاهل منهجي لنظم الإنذار والرقابة.
في هذا السياق، تلعب وسائل الإعلام المستقلة، والناشطون الاجتماعيون، وحتى مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، أدواراً مختلفة لكن متكاملة. ومع ذلك، تقع المسؤولية الأساسية على عاتق الإعلام، خصوصاً الإعلام المعارض للنظام السياسي، والذي يجب أن يؤدي دوراً يتجاوز مجرد عكس الغضب الشعبي.
ينبغي أن يتحول الإعلام إلى وسائط تُحوّل الكارثة إلى ذاكرة حيّة وذات مغزى. فإلى جانب إيصال المعلومات بدقة، تقع على عاتقه مسؤولية إعطاء معنى للحدث، وكشف أبعاده البنيوية، ومقاومة السرد الرسمي.
من خلال تجميع الأخبار في ملف مستقل، يمكن لهذه الوسائل أن تعمل بشكل أفضل من القوى المعارضة المتفرقة، لبناء سردية سياسية توضّح كيفية فهمنا للكارثة، والبنية، والضحايا، والمسؤولية. لأن أي سردية تجعل العلاقة بين الحياة اليومية وبنية السلطة مفهومة، تدخل عملياً إلى ميدان السياسة.
إذا استطاعت وسائل الإعلام والمعارضون السياسيون للنظام تصوير كارثة ميناء رجائي في كليّتها كبنية متكاملة من تقصيرات نظام إيران وجهوده في حذف وقمع العناصر المختلفة بعد الكارثة، فإنهم لا يكشفون فقط الزيف في الرواية الرسمية، بل يسحبون أيضاً سلطة السرد من يد الجهاز الرسمي.
في غياب هذه السردية، لا تنشأ غالباً "نحن" جماعية تقف ضد المسؤولين عن الكارثة. أما السرد، فيمكنه أن يربط بين الضحايا والمفجوعين المختلفين، وأن يفضح أبعاد الظلم الإنساني والطبيعي الذي تمارسه السلطة، ويثير تعاطفاً أكبر بين القوى السياسية.
في الحقيقة، إذا تم سرد الكارثة بشكل صحيح، يمكن أن تكون لحظة صحوة ووعي جماعي؛ نقطة لربط التجارب المتفرقة، لبناء تضامنات جديدة، وفي النهاية، لإعادة بناء الفضاء الرمزي للسياسة.
من الحداد إلى السياسة.. من الذاكرة إلى السلطة
يجب أن يكون حضور الإعلام، وبشكل خاص القوى السياسية، في هذا المجال موجّهاً نحو بناء سردية بديلة، موثّقة، ومتماسكة؛ سردية إذا ما صيغت بدقة واستمرارية، لا تُعيق فقط تثبيت الرواية الرسمية، بل تُمكن من تقديم بديل شرعي على الصعيد السردي، والأخلاقي، بل والتاريخي للنظام الرسمي في إنتاج المعنى.
مثل هذه السردية، المنبثقة من عمق الكارثة، توفّر فهماً جديداً للوضع، وتفتح الأفق أمام مطالبات بالمحاسبة، وفرصاً لبناء آفاق سياسية جماعية جديدة.
لحظات الكارثة الجماعية، خصوصاً في البلدان التي تعاني من الاستبداد، والتي تُظهر في طياتها أيضاً انقطاعاً سياسياً، هي لحظات يكتشف فيها جزء من الناس أنفسهم ليس فقط كمعترضين، بل كفاعلين خلاقين؛ أناس يسعون لابتكار أشكال جديدة من السياسة، والمعنى، والتضامن. الكارثة، إذا تم سردها بمسؤولية ودقة، يمكن أن تكون بداية لهذه اللحظة؛ اللحظة التي يُستحضر فيها "نحن" الجمعية الضائعة، ويعاد تشكيلها.
في مواجهة مشروع النسيان الذي تفرضه السلطة، ما يهم ليس فقط فضح المعلومات أو نشرها، بل خلق سرديات توفّر ذاكرة مقاومة، تفسيراً بنيوياً، وأفقاً متخيّلاً للفعل. ولإنتاج هذه الذاكرة، لا بد من التأكيد على أهمية الأرشفة.
الأرشفة توفّر إمكانية الوصول العلني والمنظّم إلى المعلومات، وتُظهر الجوانب الخفية من مزاعم النظام من خلال توضيح تناقضاته، وتكشف بشكل أكبر محاولات النظام الإيراني حذف مسؤوليته في الكارثة.
من جهة أخرى، يمكن للمعارضين، من خلال امتلاكهم لهذه المعلومات وذاكرة دقيقة بالتفاصيل، أن يواجهوا رواية النظام، ويُضعفوا قدرته على خلق الشكوك في الرأي العام.
تتجلى ضرورة هذا الأمر في أنّ التجربة خلال السنوات الأخيرة أظهرت أن لا المعارضة ولا معظم وسائل الإعلام المناهضة للنظام الإيراني قد التزمت بعد بمسؤولياتها بشكل منظم. فالمعارضة غالباً ما تلجأ إلى العموميات، ولا تستطيع تحويل التقارير المتفرقة إلى سردية شاملة، هادفة وفعالة.
ومن جهة أخرى، فإن العديد من وسائل الإعلام المستقلة، رغم سعيها لعكس الواقع، تدفن الأحداث بين سيل الأخبار، ولا تطوّر تحليلاً ممنهجاً ومتابعة دقيقة للأحداث الكبرى مثل كارثة ميناء رجائي. هذا التقصير المشترك هو فرصة تُمنح يومياً لسياسات النسيان التي يتبناها نظام طهران.

حصلت "إيران إنترناشيونال" على وثائق تكشف أن مجيد أعظمي، الشخصية النفطية المقربة من الحرس الثوري الإيراني، والذي سبق أن فرضت عليه واشنطن عقوبات، حاول بمساعدة مسؤول رفيع من دولة أجنبية سحب 1.6 مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في لوكسمبورغ.
كما قام أعظمي، بمساعدة ذات المسؤول الرفيع، بتنظيم اجتماع سري في عاصمة خليجية لتمكين إيران من دفع رشوة وترتيب لقاء سري لتسوية خفية بين شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة "كريسنت" الإماراتية من خلال دفع تعويض.
وكان من المفترض أن يتم تحويل هذه الأموال عبر بنك "FIIB" المسجل في ماليزيا والمملوك لبابك زنجاني، المتهم الرئيسي في قضية فساد تتعلق ببيع النفط.
وثائق تعاون أعظمي مع الحرس الثوري
وتم الحصول على هذه الوثائق نتيجة اختراق خوادم شركة "سبهر انرجی جهان نمای بارس" من قبل مجموعة القرصنة "برانا"، وتم تسليمها إلى "إيران إنترناشيونال".
في ديسمبر (كانون الأول) 2023، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على أعظمي، المدير التنفيذي لهذه الشركة.
إلى جانبه، تم فرض عقوبات على الشركة نفسها وشخص يُدعى إلياس نيرومند توماج، وهو موظف رئيسي في الشركة.
ونيرومند توماج مهندس نفط وخريج جامعة شريف الصناعية. هذا المواطن الإيراني البالغ من العمر 35 عامًا، وهو من مدينة بندر تركمان، عضو في مجلس إدارة شركة "سبهر انرجی همتا بارس" ومفتش بديل في شركة "سبهر انرجی جهان نمای تابان".
كلا الشركتين تابعتان لشركة "سبهر انرجی جهان نمای بارس" ومملوكتان للقوات المسلحة الإيرانية، والتي تم فرض عقوبات عليهما في فبراير (شباط) الماضي، ضمن الجولة الأولى من عقوبات إدارة ترامب الجديدة ضد إيران.
ووفقًا للمعلومات التي حصلت عليها "إيران إنترناشيونال"، بعد شهر من فرض العقوبات، أرسل أعظمي ونيرومند توماج شكوى رسمية عبر البريد الإلكتروني إلى مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) في وزارة الخزانة الأميركية، مدعين أنهما لا علاقة لهما بالقوات المسلحة، وأن العقوبات يجب أن تُرفع عنهما.
وزعما أنهما لم يوقعا أي عقود لبيع منتجات النفط والغاز الإيرانية. تم إرسال البريد الإلكتروني من حساب نيرومند توماج الشخصي.
لكن الوثائق التي حصلت عليها "إيران إنترناشيونال" تُظهر أنهما ليسا فقط يعملان لصالح القوات المسلحة والحرس الثوري، بل إن أنشطتهما في بيع النفط تحظى بدعم كامل من الأجهزة الأمنية.
إحدى هذه الوثائق هي رسالة من شركة النفط "ستاره خليج فارس" إلى شخص يُدعى إسحاقي، قائد مقر النفط والبتروكيماويات في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، تتعلق بعقد بيع "LPG" (الغاز السائل)، كتبت بعد أيام من إرسال البريد الإلكتروني إلى (OFAC).
في الفقرة الأخيرة من الرسالة، تم التأكيد على أن تكلفة تأمين رصيف لم يُحدد اسمه سيتم دفعها إلى حساب القوات المسلحة أو شركة "سبهر انرجی جهان نمای پبرس" كممثل لهذا المقر.
في وثيقة أخرى، وهي مسودة عقد بيع الغاز السائل، تم تصنيف شركة "سبهر انرجی همتا بارس" صراحة كممثل لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة.
وفي وثيقة أخرى، وهي مسودة عقد تأجير السفينة المحظورة Downy المملوكة لشركة الناقلات النفطية الوطنية الإيرانية، يضمن مقر النفط والبتروكيماويات في هيئة الأركان العامة جميع التزامات ومسؤوليات شركة "سبهر انرجی جهان نمای بارس".
هذه الوثائق لا تترك مجالًا للشك في أن مجيد أعظمي وشركة "سبهر انرجی جهان نمای بارس" كانا في خدمة القوات المسلحة والحرس الثوري.
أعظمي، البالغ من العمر 42 عامًا ومن مواليد أصفهان، تولى خلال السنوات السبع الماضية إدارة العديد من الشركات شبه الحكومية في إيران. وهو أحد الشخصيات المؤثرة في تجارة القار في إيران، حيث اتهمته هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية والقضاء في عام 2019 بالفساد في بيع القار، وهو الاتهام الذي نفاه.
في طريق لوكسمبورغ
تحول أعظمي خلال السنوات الثلاث الماضية إلى إحدى الشخصيات الرئيسية في بيع النفط المهرب من إيران. في عهد حكومة إبراهيم رئيسي، كان يبيع النفط من خلال شركة "سبهر انرجی جهان نمای بارس" لشبكة أمنية عسكرية يديرها محمد جواد باوند، نائب رئيس دائرة الاقتصاد في جهاز استخبارات الحرس الثوري.
لم يعنِ انتهاء حكومة رئيسي نهاية مهمة أعظمي. في 10 مارس (آذار)، كشفت "إيران إنترناشيونال" في تقرير أن أعظمي كان يخطط للسفر إلى لوكسمبورغ لسحب مليار و600 مليون دولار من الأموال الإيرانية المجمدة التي كانت تحت سيطرة شركة Clearstream، إحدى الشركات التابعة لبورصة ألمانيا.
هذه الأموال جزء من خمسة مليارات دولار من عائدات بيع النفط الإيراني، التي تم تجميدها منذ عام 2008 بسبب تهديدات أميركية بالعقوبات.
في النهاية، لم ينجح أعظمي في تحقيق ذلك. لكن وفقًا لمعلومات قدمها مصدر مطلع لـ"إيران إنترناشيونال"، تواصل أعظمي في أواخر مارس (آذار) الماضي مع مسؤول رفيع المستوى من دولة أجنبية واتفق معه على تحرير الأموال الإيرانية من لوكسمبورغ عبر إحدى شركاته النفطية.
كان من المفترض أن يسلم المسؤول الرفيع الأموال إلى النظام الإيراني في شكل عملة رقمية أو ذهب، مقابل رشوة كبيرة على شكل عمولة.
اجتماع سري
في عام 2025، دخل مجيد أعظمي في واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في إيران خلال العقدين الماضيين.
منذ حوالي 22 عامًا، وقّعت إيران عقدًا مع شركة "كريسنت" الإماراتية لبيع الغاز الحامض من حقل "سلمان الغازي" إلى الإمارات العربية المتحدة لمدة 20 عامًا.
لكن هذا العقد تحول إلى موضوع صراعات فئوية في إيران، وفي النهاية، ألغت هيئة التفتيش العامة العقد. رفعت شركة "كريسنت" دعوى قضائية ضد طهران في المحاكم الدولية.
بعد هزائم متكررة لشركة النفط الوطنية الإيرانية في النزاع القانوني مع "كريسنت"، ظهرت تقارير عديدة عن استيلاء "كريسنت" على أصول إيرانية بمليارات الدولارات في الخارج. حُكم على إيران في المرحلة الأولى بدفع ملياري دولار للشركة الإماراتية.
ووفقًا لمعلومات جديدة حصلت عليها "إيران إنترناشيونال"، قررت طهران التوصل إلى تسوية سرية مع كريسنت من خلال دفع تعويض بهدوء.
لهذا الغرض، سافر فريق إيراني في الأسابيع الأخيرة إلى الدوحة للمشاركة في اجتماع سري نظمه أعظمي.
في هذا الاجتماع، تم الاتفاق على دفع مستحقات كريسنت من ودائع إيران في بنك ماليزي يُعرف باسم البنك الإسلامي الأول للاستثمار (FIIB)، والذي يملكه بابك زنجاني.
وأكدت مصادر مطلعة لـ"إيران إنترناشيونال" أن شركة النفط الوطنية الإيرانية حصلت على إذن من محكمة ماليزية لسحب هذه الأموال، لكن بما أن بنك بابك زنجاني خاضع للعقوبات الأميركية، فإن وصول هذه الأموال إلى كريسنت سيعني أن الشركة الإماراتية انتهكت العقوبات.
وأضافت المصادر أن زنجاني، بمساعدة مسؤولين إيرانيين، يسعى للحصول على إذن من وزارة الخزانة الأميركية لدفع هذه الأموال من بنك (FIIB).
بنك بابك زنجاني مركز للأموال الملوثة للحرس الثوري
تؤكد المعلومات أعلاه أن زنجاني استأنف تعاونه مع وزارة النفط والحرس الثوري. لكن "إيران إنترناشيونال" حصلت على وثيقة سرية تُظهر أن بنك بابك زنجاني كان، منذ 13 عامًا على الأقل، مستودعًا للأموال التي جمعها الحرس الثوري من بيع النفط المهرب ومن عقود نفطية.
هذه الوثيقة هي محضر مفاوضات أجريت في عام 2012 في وزارة النفط حول مشاريع تطوير حقل "بارس" الجنوبي الغازي، قدمها أحمد قلعه باني، رئيس شركة النفط الوطنية آنذاك، إلى رستم قاسمي، وزير النفط آنذاك.
وتُشير الوثيقة صراحة إلى أنه بأمر من المرشد علي خامنئي، تم تخصيص مبلغ كبير من صندوق التنمية الوطنية لمقر خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري لتطوير عدة مراحل من حقل "بارس" الجنوبي.
في جزء آخر من الوثيقة المسربة، تم الكشف عن أن مقر خاتم الأنبياء، بصفته المقاول، قدم حسابًا في بنك "FIIB" في ماليزيا، وتم تحويل مليار و48 مليون دولار إلى هذا الحساب للمرحلة 13 من حقل بارس الجنوبي فقط.
في عام 2019، بعد انسحاب الشركات الدولية الكبرى العاملة في صناعة النفط من إيران، سلمت وزارة النفط تطوير خمس مراحل من حقل "بارس" الجنوبي الغازي إلى مقر خاتم الأنبياء، لكن الحرس الثوري تخلى لاحقًا عن إكمال هذه المراحل.
خلال فترة العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما بلغ نفوذ الحرس الثوري في وزارة النفط ذروته، كان زنجاني يبيع النفط الإيراني في السوق السوداء.
في مايو (أيار) 2013، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات عليه بتهمة التحايل على العقوبات. وكان قد خضع لعقوبات الاتحاد الأوروبي قبل ذلك بخمسة أشهر.
في يناير (كانون الثاني) 2014، تم القبض على زنجاني واتُهم بعدم إعادة حوالي ملياري دولار من عائدات بيع النفط الإيراني إلى البلاد.
قبل تسع سنوات، وبعد عقد 26 جلسة محكمة، حُكم على زنجاني بالإعدام بتهمة الفساد و"الإفساد في الأرض".
في إحدى جلسات المحكمة، اعترف زنجاني بأنه وضع هذا المبلغ من عائدات بيع النفط في بنك "FIIB"، لكنه لا يستطيع سحب الأموال بسبب العقوبات المفروضة على البنك.
في مايو (أيار) 2024، أعلن القضاء الإيراني أنه تم تحديد أصول زنجاني وتسديد ديونه، وتم إلغاء حكم الإعدام بموافقة خامنئي وتحويله إلى 20 عامًا في السجن. وفي أواخر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، تم إطلاق سراحه.
في 20 أبريل (نيسان) 2025، عاد بابك زنجاني بشكل واضح إلى الاقتصاد الرسمي في إيران، حيث أُعلن أن وزارة النقل والتنمية العمرانية وقّعت عقدًا بقيمة 61 تريليون تومان مع شركة "آوان ویل"، إحدى الشركات التابعة لمجموعته القابضة الجديدة المسماة "وان"، لتوفير عربات قطار.
تُظهر الوثائق والمعلومات الجديدة أن زنجاني، الذي وصف نفسه ذات مرة في مقابلة بأنه "بسيجي اقتصادي"، عاد أيضًا إلى اقتصاد الظل في إيران، ويلعب دورًا بارزًا إلى جانب أعظمي في شبكة تهريب النفط التابعة للحرس الثوري.

أدى إلغاء الجولة الرابعة من المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط إلى وقف مسار الحوار، بل أيضًا إلى تصعيد الحرب الكلامية بين مسؤولي البلدين.
ويُطرح الآن سؤال مهم: هل يعني هذا التصعيد اللفظي فشل المفاوضات والسير نحو مواجهة عسكرية، أم أن الطرفين ما زالا يفضلان الوصول إلى اتفاق، وإن لم يكونا مستعدين للتراجع عن مواقفهما بعد؟
وفي هذا المقال، نحلّل أسباب توقف المفاوضات، والموقف الحالي للطرفين، ومدى الخلافات القائمة، ونتساءل عما إذا كان خامنئي وترامب يسيران نحو اتفاق، أم أن التوترات ستنتهي بصدام؟
1- أسباب إلغاء المفاوضات:
السبب الأهم وراء تعليق المفاوضات هو الخلاف الحاد بين إيران والولايات المتحدة حول تخصيب اليورانيوم داخل إيران؛ إذ أعلنت واشنطن، بقيادة ماركو روبيو- الذي يشغل منصب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي للرئيس ترامب في آنٍ واحد- بشكل صريح، أن إيران غير مسموح لها بالتخصيب، حتى ولو كان بنسبة منخفضة (أقل من 4 في المائة)، ويجب عليها أن تستورد الوقود النووي لمفاعلاتها من الخارج.
كما تطالب الولايات المتحدة أيضًا بوقف البرنامج الصاروخي الإيراني، وقطع دعم طهران للجماعات المسلحة في المنطقة.
وفي المقابل، تصر طهران، خصوصًا عبر كبير مفاوضيها ووزير خارجيتها، عباس عراقجي، على أن التخصيب حقٌّ مشروع لها، بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وأكدت أنها لن تتراجع عن هذا الحق، وترى إيران أن الحفاظ على التخصيب لا يُعد قضية فنية فحسب، بل مسألة كرامة وسيادة ترتبط بشرعية النظام السياسي.
2- خلافات جوهرية وانعدام الثقة:
السبب الرئيس وراء معارضة الولايات المتحدة لتخصيب اليورانيوم في طهران هو تاريخ الانتهاكات الإيرانية للاتفاقيات السابقة، والتقارير المتكررة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60 في المائة، بل ووجود مؤشرات على تخصيب بنسبة 80 في المائة، وهو ما يتجاوز الاستخدامات السلمية بشكل واضح، ويقوّض ثقة المجتمع الدولي في طبيعة البرنامج النووي الإيراني.
وفي هذا السياق، تسعى الوكالة الدولية للطاقة الذرية حاليًا لإعداد تقرير شامل عن البرنامج النووي الإيراني، إلا أن طهران ما زالت ترفض التعاون الكامل مع الوكالة، وتمنع المفتشين من الحصول على جميع البيانات والزيارات اللازمة.
3- ترامب وروبيو.. وخط أحمر اسمه "التخصيب":
كرر ماركو روبيو، الذي بات يلعب دورًا محوريًا في سياسة ترامب الخارجية، مرارًا أن تخصيب اليورانيوم- حتى بنسبة 4 في المائة- غير مقبول. ويقول إن إيران أساءت استخدام الحد الأدنى من التخصيب سابقًا، وليس هناك ما يمنع تكرار ذلك.
وهذا الموقف يضع ضغوطًا كبيرة على مسار التفاوض، لأن قبول أي مستوى من التخصيب من قِبل إدارة ترامب سيجعل الاتفاق المحتمل يبدو شبيهًا باتفاق أوباما (الاتفاق النووي لعام 2015)، وهو أمر يسعى ترامب إلى تجنبه لتمييز سياساته.
4- رؤية النظام الإيراني: تكتيكية أم استراتيجية؟
لطالما رفض المرشد الإيراني، علي خامنئي، أي تراجع علني، لكنه في الأشهر الأخيرة أبدى إشارات إلى مرونة يعتبرها "تكتيكية". وفي تصريح له أشار إلى صلح الإمام الحسن مع معاوية، كمثال على التنازل المؤقت في الظروف الحرجة، لكنه شدد على أن هذا التراجع لن يدوم، وأن الهيمنة الأجنبية لن تكون دائمة. هذه التصريحات عززت احتمالات قبول طهران باتفاق محدود ومشروط.
5- استشراف المستقبل: اتفاق أم تصادم؟
في الوقت الراهن، يبدو أن إيران مستعدة لخفض مستوى تخصيب اليورانيوم إلى ما دون 4 في المائة، لكنها تصرّ على الاحتفاظ بهذا الحدّ الأدنى. أما إدارة ترامب فلم تحسم بعد موقفها بشأن قبول هذا المستوى من التخصيب.
وإذا قرر ترامب أنه من الأفضل إبرام اتفاق، ووافق على تخصيب محدود، فإن احتمال التوصل لاتفاق سيكون كبيرًا. أما إذا تمسك بموقفه الرافض لأي مستوى من التخصيب، فإن الكرة ستكون في ملعب إيران، وعلى خامنئي أن يقرر: هل سيوافق على اتفاق دون حق التخصيب أم لا؟
والواقع أن كلا الطرفين يرزح تحت ضغوط شديدة؛ فإيران تعاني أزمات اقتصادية داخلية واستياءً شعبيًا متصاعدًا، في حين يحتاج ترامب لتحقيق إنجاز سياسي بارز مع بداية ولايته الثانية. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح مَنْ منهما سيتراجع أولاً: خامنئي أم ترامب.
6- احتمالية تغيير جذري في السياسة الخارجية الإيرانية:
يرى بعض المحللين أن خامنئي قد يطمح لتغيير شامل في السياسة الخارجية، يتجاوز مجرد اتفاق محدود، ويشمل عودة الشركات النفطية الأميركية إلى إيران، واستئناف العلاقات الاقتصادية مع واشنطن. إلا أن الوقائع الحالية لا تؤكد هذا الاتجاه؛ فالخطاب الرسمي الإيراني لا يزال يستند إلى معاداة أميركا وإسرائيل، ويبدو فتح السفارات أو إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع أميركا غير وارد حاليًا.
وطبقًا لهذه العوامل السابقة تقف المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة عند منعطف حاسم، والقرار النهائي بشأن استئنافها أو انهيارها مرتبط مباشرة بإرادة شخصين، هما: دونالد ترامب وعلي خامنئي. وما يعرقل الاتفاق ليس التفاصيل الفنية أو القضايا الجانبية، بل الخلاف حول مبدأ تخصيب اليورانيوم داخل إيران، وطالما لم يُحسم هذا الخلاف الجوهري، فلا يمكن الحديث بيقين عن مستقبل هذه المفاوضات.

من المقرر أن تستأنف طهران وواشنطن المحادثات السبت المقبل، لكن الدعوات المتزايدة لربط أي اتفاق بتفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية تُلقي بظلالها على التفاؤل المبكر.
الموقف الصلب المطالب بالتفكيك الكامل هو الخط العام المتشدد الجديد للبيت الأبيض والمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، وقد دفع به أيضًا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أكد يوم الاثنين أن حكومته لن تقبل بأقل من ذلك.
وكتب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي على "إكس": "وهم إسرائيل بأنها تستطيع فرض ما يجوز أو لا يجوز لإيران فعله منفصل تمامًا عن الواقع لدرجة أنه لا يكاد يستحق الرد"، واصفًا نتنياهو بـ"الوقح" لإخباره الرئيس الأميركي بما يجب فعله.
ومن المثير للدهشة أنه واصل انتقاد إدارة جو بايدن الديمقراطية فيما بدا كمحاولة لكسب ود الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وكتب عراقجي: "حلفاء نتنياهو في فريق بايدن الفاش- الذي فشل في التوصل إلى اتفاق مع إيران- يصورون بشكل زائف مفاوضاتنا غير المباشرة مع إدارة ترامب على أنها اتفاق نووي آخر ".
لا يمكن المبالغة في أهمية هذه الإشارة العلنية من مسؤول إيراني على حساب الرجل المتهم باسترضاء طهران تقريبًا كل أسبوع من ولايته.
قد يكون هذا التحول في النبرة مدفوعًا جزئيًا بالتداعيات الاقتصادية لحريق ميناء بندر عباس، والذي يعتقد المراقبون أنه زاد من الضغوط المالية على طهران.
إيران، وكبير مفاوضيها عراقجي، لديهما كل الأسباب للقلق بشأن انهيار المحادثات، بالنظر إلى البديل "السيئ للغاية" الذي اقترحه ترامب.
كانت الرغبة في إظهار تفاؤل حذر واضحة أيضًا في افتتاحية على موقع "دبلوماسية إيران"، وهو موقع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوزارة الخارجية.
تناول المقال سيناريوهين: استهداف الولايات المتحدة للمواقع النووية الإيرانية، أو قبول "نظام إقليمي جديد" تصبح فيه طهران موردًا رئيسيًا للطاقة للغرب. وقال إن الأخير هو النتيجة الأكثر ترجيحًا.
في هذا السيناريو، وفقًا لـ"دبلوماسية إيران"، سيتم إعادة تعريف الجماعات المسلحة المتحالفة مع إيران في المنطقة ودمجها تدريجيًا في هياكل عسكرية رسمية.
ومن الغريب أن المقال قدم كل ذلك كدليل على قوة الردع الإيرانية واستسلام واشنطن لمطالب إيران، مع تحذير من الثقة الزائدة عند التعامل مع رئيس لديه "سجل سيئ في تقويض الالتزامات".
وقد نشرت صحيفتان إصلاحيتان، "شرق" و"اعتماد"، قصصًا مماثلة في اليوم نفسه.
قالت "شرق" إن هناك مجالًا لتفاؤل حذر بينما تستمر المحادثات، مشيرة إلى أن القضايا الرئيسية لا تزال دون حل.
وأفادت "اعتماد" أن استطلاعًا حديثًا أظهر أن 8 من كل 10 أشخاص يدعمون المحادثات واتفاقًا محتملاً، شريطة أن يحمي مصالح إيران ويحافظ على التقدم في العلوم النووية وتكنولوجيا الصواريخ.
وأشارت الصحيفة المؤيدة للحكومة إلى أن استطلاعًا مماثلًا أُجري قبل الاتفاق النووي لعام 2015 أظهر أن عددًا أقل- 7 من كل 10- قالوا إنهم يؤيدون اتفاقًا.