"تاسيان".. رواية عاطفية لإعادة كتابة الذاكرة السياسية

في مسلسل "تاسيان" من إخراج تينا باكروان، يغيب الوجه القمعي المعتاد لعناصر السافاك، ويُستبدل بصورة رجل حائر، يحمل نظرات حزينة وتعلّقاً عاطفياً غير مكتمل.
إيران إنترناشيونال

في مسلسل "تاسيان" من إخراج تينا باكروان، يغيب الوجه القمعي المعتاد لعناصر السافاك، ويُستبدل بصورة رجل حائر، يحمل نظرات حزينة وتعلّقاً عاطفياً غير مكتمل.
في وقت لم يتجاوز فيه بعدُ المجتمع آثار عنف الأجهزة الأمنية، فإن مثل هذا التصوير للماضي لا يُعد مجرد اختيار لسياق قصصي، بل هو محاولة للتلاعب بالذاكرة الجمعية، وربما لترميم وجوهٍ تبدو أقرب إلى الحاضر منها إلى الماضي.
توقّف بث الحلقات الأولى من المسلسل لبعض الوقت؛ وهو حدث اعتبرته بعض وسائل الإعلام مؤشراً على جرأة الرواية. لكن عودة المسلسل دون أي تغيير، أوضحت سريعاً أننا أمام تكتيك دعائي؛ توقّف مُتحكَّم فيه لخلق انطباع بوجود جو نقدي. هذا النموذج سبق أن تكرّر؛ حيلة مألوفة يتم فيها استخدام الرقابة لا لإسكات الصوت، بل لمنح الشرعية لنفس الصوت المسموح به.
شخصية "أمير"، عنصر السافاك، يدخل الجهاز الأمني بدافع الحب والحماية لا القمع. هذا المسار يفصل البنية السردية عن الحقيقة التاريخية، فجهاز السافاك، المسؤول عن تعقّب وتعذيب وتصفيه المعارضين، يُقدَّم هذه المرة بوجه نبيل ومعذَّب.
المسلسل محاولة لفصل الصورة الفردية للعنصر الأمني عن مسؤوليته المؤسسية، تماماً كما في الروايات الرسمية اليوم، حيث لا يُصوَّر المنتسبون إلى البُنى القمعية كفاعلي عنف، بل كأشخاص عاديين لهم همومهم الشخصية.
كانت السبعينيات مرحلة مشبعة بالسياسة، من الجامعات حتى المنازل. لكن في "تاسيان"، تم تغييب السياسة، وصوت المقاومة صامت. الشخصيات المعارضة سطحية أو متطرفة، وحواراتها أقرب إلى منولوجات غاضبة منها إلى تحليلات سياسية.
في غياب سردية النضال، يصبح العنصر الأمني هو السردية الوحيدة ذات الشرعية في المسلسل.
وبدلاً من أن يوضع المشاهد بين طرفَي التاريخ، يرى زاوية واحدة فقط، وما هو غائب أخطر مما هو حاضر.
هل نحن أمام رمادية إنسانية أم تبييض متعمّد؟
الأدب المعاصر تقبّل الشخصيات الرمادية؛ أولئك المترددين بين الخير والشر. لكن "أمير" في "تاسيان" يظهر منذ البداية كضحية لا كفاعل. يتجنب إطلاق النار، يعيش في حيرة، ولا يواجه مطلقاً تبعات دوره الأمني.
لسنا أمام شخصية رمادية حقيقية، بل أمام تطهير لهوية ما زالت في الذاكرة الجمعية مسؤولة عن القمع والسيطرة، كما هو الحال اليوم في السردية الرسمية، التي تقدّم بعض الأجهزة الأمنية لا كأذرع للقمع بل كحماة للنظام والأخلاق.
المسلسل موجَّه إلى جيل لم يعش عقد السبعينات ولا يملك صورة واضحة عنه. في ظل هذا الغياب، عندما يُقدَّم العنصر الأمني بوجه إنساني وتُهمَّش المقاومة، تترسّخ الرواية الرسمية: أن السلطة لم تكن خطرة، وأن القمع كان مجرّد سوء فهم في ماضٍ بعيد.
هذه الإعادة للكتابة لا تهدف إلى فهم الماضي بقدر ما تسعى إلى جعل وجه السلطة الحالي يبدو طبيعياً؛ الوجه الذي لا يزال يُظلّل الجامعات والشوارع والمنازل بثقله.
"تاسيان" مسلسل متقَن، بإطارات بصرية دقيقة وأداءات محسوبة. لكن جماله لا يُشكّل سوى نصف القصة. النصف الآخر هو سردية تصنع من العنصر الأمني وجهاً إنسانياً، فيما تُقصى المقاومة من المشهد.
هذه السردية، وإن سارت في هدوء شعري وتحت أضواء خافتة، فإنها في النهاية تحرم المشاهد من إصدار حكم على السلطة، ولهذا السبب تحديداً، ينبغي أخذها بجدية.

تتردّد بعض الهمسات مفادها أنه إذا تم السماح للنظام الإيراني بالبقاء، فإنه مستعد لتقديم بعض التنازلات.
وقد سُمِع أن جزءًا من أجهزة السلطة، لا سيما بعد التحولات الإقليمية وتراجع المكانة الدولية لإيران، يسعى إلى تقديم صورة أكثر اعتدالاً للنظام. لكن، هل يملك هذا النظام حقًا القدرة والإرادة للتحول إلى "دولة طبيعية"؟
وتقف إيران مرة أخرى عند مفترق سياسي مصيري؛ فمن جهة، اقتراب نهاية قيادة المرشد علي خامنئي وإمكانية حدوث انتقال في رأس هرم السلطة، ومن جهة أخرى، عودة الخطاب "الإصلاحي" من قِبل بعض الشخصيات والتيارات السياسية الإصلاحية، التي تبشّر بإمكانية عودة إيران إلى وضع "طبيعي"؛ أي إلى حكومة قادرة على التفاعل مع المجتمع الدولي، وفتح البنى المغلقة، وإحياء الفضاء المدني.
نحن أمام تعبير غير رسمي، وليس مصطلحًا فنيًا راسخًا في العلوم السياسية. فمصطلح "الدولة الطبيعية" لا يظهر كمصطلح رسمي في الأدبيات النظرية والأكاديمية للعلوم السياسية، لكن في الخطاب السياسي والإعلامي، لا سيما في التحليلات الصحفية أو نظريات الانتقال السياسي، أو بالمقارنة مع الأنظمة الاستبدادية أو الغارقة في الأزمات، يُستخدم أحيانًا كتوصيف.
والمفاهيم الأقرب له في النصوص الأكاديمية تشمل: "الدولة القائمة على سيادة القانون"، "الديمقراطية الليبرالية"، "الدولة المسؤولة والخاضعة للمساءلة"، و"الدولة ذات الكفاءة" في تقديم الخدمات العامة، وحفظ الأمن، وتنظيم الاقتصاد.
وفي بعض النظريات السياسية، مثل أفكار المفكر الألماني، كارل شميت، يُقابل "النظام العادي" بـ "النظام الاستثنائي"؛ حيث تستغل السلطة الأزمة الدائمة لتبرير الاستبداد. ومِن ثمّ، فإن "الدولة الطبيعية" ليست مفهومًا دقيقًا أو علميًا، بل هو تعبير وصفي يُستخدم عادة للإشارة إلى أنظمة لا تعيش على الأزمات، وتقوم على القانون والمساءلة.
الدولة "الطبيعية" هي النظام الذي لا يعيش في حالة صدام دائم مع شعبه أو مع المجتمع الدولي، ويعترف بحقوق المواطنين، ويتيح المشاركة السياسية الحقيقية، ويملك مؤسسات مستقلة وخاضعة للمساءلة، ولا يستخدم الأمن كأداة للقمع. في مثل هذا النظام، يُصاغ الدستور على أساس سيادة الشعب والمساواة القانونية. وللناس دور في اختيار قادتهم، ويختارون نمط حياتهم بحرية، ويتمتعون بحرية التعبير والإعلام، ولا يُجابهون بالقمع العنيف عند الاعتراض.
لقد قام النظام الإيراني على تركز السلطة؛ فالمادة 110 من الدستور تمنح المرشد صلاحيات واسعة، من تحديد السياسات العامة للنظام إلى قيادة القوات المسلحة، وتعيين وعزل كبار القضاة، وتعيين رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون وأعضاء مجلس صيانة الدستور. المرشد لا يُنتخب مباشرة من قِبل الشعب، ولا يخضع لأي مؤسسة مستقلة للمساءلة، كما أن الدستور لا يتضمن آلية واقعية لعزله.
أما مؤسسات، مثل مجلس صيانة الدستور، فهي عبر رقابتها التصحيحية، تُلغي إمكانية إجراء انتخابات تنافسية. والسلطة القضائية، بدلًا من أن تكون مؤسسة عدل، تحولت إلى ذراع للقمع السياسي، وتفتقر إلى الاستقلال عن المرشد، كما أن الأجهزة الأمنية، مثل الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات، تخضع مباشرة لقيادة المرشد، وليس للحكومة المنتخبة.
أما الإعلام الحر، والأحزاب المستقلة، والمنظمات المدنية، فإما جرى قمعها بالكامل أو أُخضعت لسيطرة النظام. فالدستور، بدلاً من أن يقيّد السلطة، يقوم بتكريسها وتعزيزها.
منذ 23 مايو (أيار) 1997 وحتى انتخابات 2021، توجه المجتمع الإيراني مرارًا إلى صناديق الاقتراع، على أمل تحقيق إصلاحات من داخل النظام؛ لكن في كل مرة، انتهى الأمر بخيبة أمل وقمع وانسداد أكبر. ففترة محمد خاتمي انتهت بالاغتيالات المتسلسلة، والإغلاق الواسع للصحف، وتضييق الحريات المدنية. وفترة حسن روحاني، التي جاءت بوعود الاعتدال والانفتاح، شهدت قمع احتجاجات يناير (كانون الثاني) 2018 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2019، ومع خلفه إبراهيم رئيسي بلغت ذروتها مع مقتل الشابة الإيرانية، مهسا أميني، المفجع أثناء احتجازها لدى "شرطة الأخلاق".
ويقول العديد من المحللين الإيرانيين، بمن فيهم مصطفى تاج زاده وسعيد حجاريان وبعض النواب السابقين، إن الإصلاح لم يعد ممكنًا من داخل هذا الهيكل. ففي كثير من الأحيان، تحوّل "الإصلاحيون" إلى صمام أمان لتنفيس ضغط الشارع، لا إلى قوة تغيير حقيقية.
صرّح المرشد الإيراني، علي خامنئي، مرارًا خلال أعوام: 2016 و2018 و2021 بأن "هيكل النظام" لا يحتاج إلى إصلاح، واعتبر كل دعوة للتغيير "مؤامرة من الأعداء". وهذا الموقف الرسمي يتكرر على مختلف مستويات السلطة.
وتقوم الآلة الإعلامية للنظام الإيراني، من وسائل الإعلام المرتبطة بمكتب المرشد إلى القنوات الرسمية، بإعادة إنتاج خطاب موحد: "حفظ النظام من أوجب الواجبات". وفي مثل هذا النظام، لا يُعد التغيير مرغوبًا فيه، بل يُعتبر تهديدًا.
حركة "المرأة.. الحياة.. الحرية" والمطالبة بالتغيير
شكّلت الاحتجاجات الواسعة عام 2022، التي اندلعت تحت شعار "المرأة.. الحياة.. الحرية"، نقطة تحول في الوعي السياسي للمجتمع؛ فقد أبرزت، من خلال انتشارها الجغرافي، وتنوعها الطبقي، وقيادتها الميدانية من قًبل الجيل الشاب، أن المجتمع الإيراني تجاوز مرحلة "المطالبة بالإصلاح" إلى مرحلة "المطالبة بالتغيير". وقد أظهرت استطلاعات رأي موثوقة أن أغلبية المجتمع، وخاصة الشباب، لم تعد تؤمن بإمكانية الإصلاح من داخل النظام.
ومثّل هذا التحول الذهني نهاية الشرعية السياسية للنظام الإيراني داخل المجتمع. والمطلب العام اليوم هو بناء نظام جديد قائم على إرادة الشعب، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، والحريات الأساسية؛ لا بقاء نظام يسعى فقط إلى الاستمرار.
إذا كان "أن تصبح دولة طبيعية" يعني الانتقال إلى نظام عرفي، خاضع للمساءلة، وديمقراطي، وقائم على حقوق الإنسان، فإن النظام الإيراني، من حيث البنية، والدستور، والتجربة التاريخية، وإرادة القادة الحاليين، تفتقر إلى أي قدرة على هذا التحول. فحتى لو تُوفيّ علي خامنئي، فإن لم تتغير البنية، فلن يختلف خليفته عنه في شيء.
وتُظهر تجارب الدول السلطوية أن تغيير القائد، دون تغيير الهيكل، لا يجلب الإصلاح. وما حدث في الصين بعد "ماو"، والاتحاد السوفيتي بعد "ستالين"، أو كوبا بعد "كاسترو"، دليل على أن "الانتقال الحقيقي" يحتاج إلى تغيير في القانون، والمؤسسات، والثقافة السياسية، وليس فقط في الوجوه.
والنظام الإيراني، في جوهره، لم يُبنَ للإصلاح؛ بل قام لترسيخ السلطة، والقضاء على كل تهديد لبقائها.

في ظل غياب دام 24 يومًا للمرشد الإيراني علي خامنئي، لم تكن المسألة أمنية فحسب، بل كانت مؤشرًا عميقًا على أزمة أكبر في بنية السلطة داخل نظام طهران، وهي زوال "الاقتدار".
الاقتدار الذي كان، حتى في ذروة القمع، يستند إلى بعض مرتكزات القبول الشعبي، وصياغة السرديات، وشعورٍ بالتماسك، تقلّص اليوم إلى مشاهد كاريكاتورية من التملّق، والعجز، والخوف، في ظلّ صمتٍ مطبق للمرشد، وقلق ظاهر في أوساط مؤيديه.
وخلال فترة الغياب تلك، وخصوصًا بعدها، تم نشر مشاهد من المديح المفرط وكتابات مليئة بالمبالغة، لم تكن تعبيرًا عن يقين، بل كانت محاولة لترميم الفراغ، الذي خلفه غياب المرشد. حتى أشدّ المؤيدين لخامنئي لم يتمكنوا من كبح الحديث عن مسألة "الخلافة"، وهي مسألة كانت سابقًا بمثابة "تابو مقدس". أما اليوم، فقد اضطُر النظام نفسه إلى الاعتماد على أدوات خارجية- أي القمع- بدلاً من الركون إلى اقتدار داخلي.
"الاقتدار" لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استند إلى سردية كبرى تحظى بقبول شعبي. سرديات يعتبرها المجتمع، حتى في الأوقات العصيبة، "ذات مغزى" و"جديرة بالدفاع عنها". فالنظام الإيراني منذ نشأته قام على سردية متعددة الطبقات: مزج التقاليد الدينية مع طموحات العدالة، ومقاومة "العدو"، وحماية الأمن القومي.
أما اليوم، فقد انهارت تلك السردية فعليًا، وما تبقى منها ليس سوى شعارات مكررة خالية من التأثير، لم تعد تثير الحماسة حتى في أوساط الموالين للنظام. الأجيال الجديدة لا تتفاعل مع تلك السردية، بل تعيش واقعًا يتناقض معها.
وبحسب عالم الاجتماع الأميركي، تالكوت بارسونز، فإن الاقتدار السياسي لا يكون فاعلاً، إلا عندما تُعتبر الالتزامات الاجتماعية "مشروعة" ومتوافقة مع "معتقدات الناس، وأهدافهم، وقيمهم".
ويقول: "السلطة هي القدرة المعممة على ضمان تنفيذ الالتزامات الإلزامية داخل النظام الجمعي. وتكون هذه السلطة فاعلة عندما تؤدي شرعية الالتزامات إلى قبول طوعي لها".
أما اليوم، فلم يعد هناك أي شرعية، ولا حتى مؤشرات على "القبول القسري". فالشعب، وبالأخص جيل الشباب، لا يتفاعل مع النظام، بل لم يعد يؤمن بأي نوع من التفاعل المعنوي معه، ما تبقى هو القوّة فقط.
ويقول الفيلسوف السياسي البريطاني، ميل تومبسون، في أحد تعريفاته المحورية: "ثمة فرق بين السلطة والاقتدار؛ السلطة هي القدرة على تنفيذ شيء ما، أما الاقتدار فهو الحق في تنفيذ ذلك الشيء".
ويضيف: "الحكم العسكري قد يتمكن من السيطرة على الناس عبر الرعب، لكن ذلك لا يعني أنه يمتلك الشرعية أو الاقتدار للقيام بذلك. فالاقتدار يتطلب رضا الشعب واتفاقًا ضمنيًا بين الحاكم والمحكوم".
وقد فقد النظام الإيراني بوضوح اقتداره، خصوصًا خلال العقد الأخير، ولم يتبقَ له سوى أدوات السلطة: السلطة القضائية، قوى الأمن، الحرس الثوري، الأجهزة الاستخباراتية، وجيوش إلكترونية. لكنها تفتقر إلى "شرعية" استخدام هذه الأدوات.
والسلطة دون اقتدار هي سلطة مستنزفة في نهاية المطاف. الأنظمة التي تعتمد فقط على القوّة، حتى وإن استمرت لفترة، فهي دومًا معرضة لعدم الاستقرار الداخلي ولتهديدات بعيدة المدى، لأن الطاعة من دون رضا، تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى مقاومة، وإنْ كانت صامتة.
وفي عصر المعلومات والاتصالات، لم تعد السلطة تُستمد فقط من فوهة البندقية.
ويؤكد واضع نظرية "القوة الناعمة"، جوزيف ناي، أن "القوة الناعمة هي القدرة على التأثير من خلال الإقناع، لا الإكراه. أي أن تتمكن الدولة من استخدام جاذبيتها الثقافية أو القيمية أو الإعلامية لدفع الآخرين إلى الامتثال".
وحاول النظام الإيراني، عبر فهمه السطحي لهذا المفهوم، استبدال الشرعية الحقيقية بـ "حرب إعلامية"، فأنفق ميزانيات ضخمة لتأسيس جيوش إلكترونية، ووكالات إعلامية مموّهة، وشبكات دعائية في الداخل والخارج. لكنه فشل ليس فقط في خلق جاذبية، بل تحوّلت تلك الأدوات إلى جزء من أزمة الشرعية نفسها. فالمتلقي اليوم أكثر وعيًا وتعقيدًا من أن يُخدَع بسهولة بدعاية ممجوجة.
والأهم من ذلك، حتى داخل البلاد، فإن آلة النظام الإعلامية فقدت فاعليتها بسبب التناقضات، والأكاذيب، والرقابة المفرطة، وإنكار الحقائق. فبالنسبة للمواطن الإيراني، الصوت الرسمي للنظام لم يعد مصدر ثقة، بل بات رمزًا لـ "تشويه الحقيقة".
ولا يزال النظام الإيراني قائمًا، فجهاز القمع يعمل، والدعاية نشطة، والمعارضون يُلاحقون. لكن هذا الاستمرار لم يعد مؤشرًا على الاقتدار، بل أصبح مجرّد علامة على امتلاك السلطة. وهي سلطة بلا جذور، خالية من المعنى، بلا أفق.
ولو اعتبرنا الاقتدار كالبناء، فإن النظام الإيراني اليوم لا يحتفظ سوى بالجدران الخارجية: العنف، التهديد، القمع. أما الداخل فقد انهار منذ زمن: الثقة العامة، المشاركة الحقيقية، السردية المشروعة، التماسك الوطني، وآفاق التنمية.
في مثل هذا الوضع، لم يعد السؤال الرئيس هو: كيف سيتصرف النظام؟ بل أصبح: إلى متى يمكن لحكمٍ بلا اقتدار أن يستمر؟

تفوح رائحة التآكل من كل شبر في إيران؛ من الهواء والتربة إلى أرواح المواطنين وأجسادهم. هذا الدمار لم يحدث فجأة، ولم يكن نتيجة قرار واحد أو عقد من الحكم السيئ فحسب، بل إن ما نشهده هو نتيجة تراكم أزمات، عامًا بعد عام، جيلاً بعد جيل، كشقوق دقيقة وعميقة شقّت بنيان المجتمع.
فالاقتصاد الإيراني ليس فقط مريضًا، بل يعيش على أجهزة الإنعاش، والتضخم المنفلت خفّض من مستوى معيشة المواطنين إلى النصف خلال العقد الماضي. والتعليم، الذي كان يمكن أن يكون مفتاح التنمية، أصبح غارقًا في التسييس وشُحّ الموارد.
جيلٌ كامل حُرم من الإبداع، والتفكير النقدي، والتعليم الجيد. البيئة وصلت إلى حافة الانهيار: الأنهار، والمستنقعات، والبحيرات تجفّ واحدة تلو الأخرى، والأرض، كمكان للعيش، تغوص كل يوم أكثر في المدن الكبرى.
وهذه ليست مجرد أمثلة أو تحذيرات بسيطة؛ إنها دلائل على انهيار تدريجي. إلى جانب ذلك، فإن الأزمات النفسية والعقلية تلعب دورًا كبيرًا أيضًا. وبحسب مسؤولي الصحة في البلاد، فإن 25 في المائة من سكان إيران يعانون شكلاً من أشكال الاضطرابات النفسية.
والاكتئاب، والقلق، والشعور بانعدام القيمة في تزايد مستمر بين الشباب والمراهقين، أما هجرة النخب، التي كانت يومًا ما ظاهرة محدودة، فقد تحولت الآن إلى موجة واسعة؛ حيث يغادر عشرات الآلاف من المتخصصين، والأطباء، والمهندسين وخريجي الجامعات المرموقة البلاد كل عام.
وجيل اليوم مختلف جذريًا عن الأجيال السابقة؛ لا لأنه أفضل منها، بل لأنه نشأ في ظروف مختلفة تمامًا، هذا الجيل نشأ منذ الطفولة وسط الأزمات؛ ليس فقط الأزمات الاقتصادية أو السياسية، بل أزمة في المعنى ذاته.
فعندما تغيب الثقة في أي مؤسسة عامة، وعندما يكون التعليم بلا جودة، والإعلام الرسمي بعيدًا عن الحقيقة، ويصبح النجاح والتقدم لا يمران عبر الجدارة، يجد الشاب الإيراني نفسه أمام سؤال وجودي: لماذا أبقى؟ لماذا أُكافح؟ ولأي مستقبل؟
لكن في خضم هذه الأسئلة، توصّل هذا الجيل إلى شيء آخر: الواقعية الراديكالية؛ فلم يعد كثيرون يؤمنون بإصلاح تدريجي للنظام السياسي، ولم يعد أحد يثق في الوعود الرسمية.
ورغم أن انعدام الثقة هذا مؤلم، فإنه يشكّل في الوقت ذاته فرصة لإعادة البناء من الأسفل إلى الأعلى. جيل اليوم، بدلاً من انتظار التعليمات أو الحلول من فوق، ينظر إلى قدراته الصغيرة والجماعية.
وظهور مجموعات مستقلة، والسعي لتعلم مهارات جديدة، زيادة الوعي الرقمي، وحتى الانتفاضات الاحتجاجية- رغم قمعها- التي كسرت جدار الخوف، كلها مؤشرات على تشكل وعي جديد.
وفي عام 2022، أظهرت انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" أن هذا الجيل يتحدث لأول مرة بلغة عالمية. شعارات هذه الانتفاضة لم تكن أيديولوجية بالية أو تقليدية، بل انبثقت من التجربة المعيشة لهذا الجيل الجديد. جيل اليوم يصوغ روايته لإيران من خلال الجسد، والصورة، والموسيقى، ووسائل الإعلام الجديدة، ويوصلها إلى العالم.
وإلى جانب هذا الوعي السياسي والاجتماعي، ينظر الشباب إلى التكنولوجيا كأداة تمكين؛ حيث إن تزايد عدد الشركات الناشئة، والأعمال الرقمية، والمبرمجين المستقلين، والإبداع في منصات مثل "إنستغرام" و"يوتيوب"، جميعها مؤشرات على سعي نحو الاستقلال عن الهياكل المتهالكة.
وقد لا تُحدث هذه الجهود تغييرًا على مستوى النظام، لكنها تخلق على الصعيدين الفردي والجماعي طاقات يمكن أن يُبنى عليها مستقبل إيران.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل العبء النفسي الهائل. هذا الجيل عليه أن يعيش، ويناضل، ويصنع المستقبل في آنٍ واحد. لكن في أي مجتمعٍ سليم لا تُلقى هذه المسؤوليات على عاتق الشباب، لأن هذا ليس دورهم أصلاً.
أما في إيران، فهذا العبء غير العادل هو الواقع اليومي لملايين الشباب. عليهم أن ينموا في نظامٍ تعليمي يُهينهم، ويبدعوا في بيئة يُقمع فيها الفن والفكر، ويبنوا مستقلاً في مجتمع لا يرسم لهم أي أفق.
وفي غياب المؤسسات المستقلة، تحمّل الشباب الإيراني مسؤوليات يجب أن تكون على عاتق البنى السياسية، والثقافية والاقتصادية. عليهم أن يكونوا خريطة الطريق، والسائق، والوقود في آنٍ واحد.
وهنا يطرح السؤال الجوهري نفسه: كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن خلق مستقبل جديد من وسط الخراب؟ الجواب: ليس بالمعجزات، ولا بالثقة في البنى المتداعية، بل بإعادة بناء العلاقات الاجتماعية بشكل تدريجي ومتصاعد. فتكوين الشبكات، الحوار العام، التعليم المستقل، العمل الجماعي وتعزيز الروح الجمعية، كلها أدوات البناء الحقيقي.
كما رأينا في الانتفاضات الاجتماعية الأخيرة، فإن قوة هذا الجيل تكمن في "أن يكونوا معًا"، وليس في انتظار المساعدة من الأعلى. هذا الجيل، على عكس الماضي، لم يعد يؤمن بالبطل الفرد؛ بطله هو الجماعة.
وفي هذا السياق، فإن بناء المستقبل لا يعني ترميم ما انهار، بل يعني تخيّل ما لم يوجد أصلاً: مجتمعٌ عادل، شفاف، وحر. وهذا هو عمل جيلٍ جُرح وأُرهق، لكنه لا يزال حيًا.
جيلٌ قد لا يملك أملًا بالمعنى الكلاسيكي، لكنه لم يفقد خياله. والخيال هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن لقوى القمع أن تدمّره.
إيران سيُعاد بناؤها على يد هذا الجيل؛ فإعادة البناء تبدأ بالاعتراف بالدمار. وهذا الجيل قد اعترف به بالفعل؛ والآن حان وقت البناء.

مع اندلاع المواجهة العسكرية، التي استمرت 12 يومًا بين إيران وإسرائيل، وما رافقها من دعوات لإسقاط النظام الإيراني، عادت تلك القضية إلى صدارة اهتمام المعارضة. وفي خضم هذا الوضع، شدد البعض على العودة إلى "النضال السلمى" و"المجتمع المدني"، مع رفض التدخل الخارجي.
ولكن وفق النظريات الكلاسيكية في العلوم السياسية، لا يؤدي المجتمع المدني إلى الديمقراطية إلا عندما تكون الشروط المسبقة متوفرة، ويُسمح له بالعمل المستقل داخل هيكل الدولة.
ولتقييم هذا المسار في إيران، يجب تحليل الهيكل المعقد والمتعدد الطبقات للنظام الإيراني.
ويمكن تصنيف النظام الإيراني في عقده الخامس كواحد من الأنظمة السلطوية، من خلال عدة سمات بارزة: هندسة المنافسة السياسية، وفرض الأيديولوجيا الرسمية، وقمع المؤسسات المستقلة، وتركيز السلطة بيد فئة ضيقة.
ويعتبر هذا النظام نموذجًا نادرًا يمزج بين أنواع متعددة من السلطوية، عبر أسس مترابطة:
1- الهيمنة الأيديولوجية: تقوم على شرعية دينية متصلبة مستندة إلى تفسير معين للمذهب الشيعي، وتُروّج عبر آلاف المؤسسات الحكومية، وشبه الحكومية مثل منظمة الدعاية الإسلامية، والحوزات، وممثلي الولي الفقيه.
2- الهيمنة العسكرية: يديرها الحرس الثوري والباسيج، وتهدف إلى فرض أمن محلي وشامل على شكل "فسيفسائي" على المستويات الوطنية والمحلية.
3- الهيمنة الشرطية: تُمارَس من خلال القوات الأمنية الكلاسيكية ووحدات مكافحة الشغب، مع مهام دينية في المجالين الثقافي والاجتماعي.
4- الهيمنة الأمنية: تعتمد على شبكات استخباراتية متداخلة وغير خاضعة لأي التزام حقوقي أو مهني.
5- الهيمنة البيروقراطية: تستند إلى جهاز إداري ضخم وغير فعال يهدف إلى تقويض الضغط الاجتماعي والتحكم في الحياة الخاصة والعامة للمواطنين.
6- الهيمنة الاقتصادية: تتم من خلال شبكات واسعة قائمة على الريع النفطي، تغذي الدولة ومؤسساتها الموالية.
وإذا كانت أنظمة مثل صدام حسين، أو القذافي، أو الاتحاد السوفيتي، تستند إلى واحدة أو اثنتين من هذه الدعائم، فإن النظام الإيراني جمع كل هذه الأركان معًا، مما يجعله حالة فريدة.
هل يمكن للمجتمع المدني أن يكون آلية انتقال في هذا السياق؟
بعد الحرب الباردة وسقوط الكتلة الشرقية في أوروبا، طُرح المجتمع المدني كآلية انتقال سلمي نحو الديمقراطية، واعتُبر شرطًا للمساعدات الدولية. لكن باحثين، مثل لاري دايموند وتوماس كارذرز، ناقشوا لاحقًا محدودية هذه الوصفة في ظل الأنظمة السلطوية.
وأوضح الباحث في مركز سياسة الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز الأميركي، ستيفن هايدمان، في تحليله لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كيف وظّفت الأنظمة الاستبدادية المؤسسات المدنية لتعزيز سلطتها.
وفي إيران، كما في دول الجوار، شهدت فترة حكومة الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، في التسعينيات ميلاً عامًا إلى تأسيس منظمات غير حكومية، لكن كثيرًا من هذه المؤسسات فَقَدت استقلالها لاحقًا تحت تأثير التمويل أو الرقابة الإدارية والأمنية والقانونية.
وواجه جيل النشطاء السياسيين والإعلاميين، الذين نشأوا في عهد خاتمي، لاحقًا، مصيرًا مشتركًا: السجن، المحاكمات، اتهامات بـ "التجسس" أو «الثورات الملونة»، أو القبول بخطاب النظام للبقاء.
واليوم، معظم المؤسسات المدنية الإيرانية، إما باتت تحت رقابة مباشرة لوزارة الداخلية والحرس الثوري والباسيج والمخابرات، أو تحولت إلى أدوات خاضعة بالكامل للسلطة.
وحتى بعض المنظمات، التي تحمل اسم "حقوق الإنسان"، لها روابط بنيوية أو خطابية مع النظام. ويشرح نموذج "الكوبراتية السلطوية" كيف تقوم الأنظمة بتطويع منظمات المجتمع المدني لإضفاء طابع تنافسي زائف على الساحة السياسية.
وهذا الوضع أفقد المجتمع المدني الإيراني الناشئ روحه الناقدة واستقلاله، بل جعله أحيانًا أداة لمنح الشرعية للنظام، بدل أن يكون محركًا للتغيير.
وفي موازاة المجتمع المدني، اكتسب مفهوم "النضال السلمي" رواجًا بين بعض معارضي النظام الإيراني.
ولكنّ هناك شرطين أساسيين لهذا الخيار:
1- أن يكون الهدف تغييرات جزئية أو سياسات معينة، وليس إسقاط النظام بكامله.
2- وجود قضاء مستقل وآليات للعدالة كي يكون لهذا النضال فاعلية.
وأثبتت تجارب "الثورات الملونة" في أوروبا الشرقية أن النضال السلمي لا ينجح، إلا إذا كانت القبضة الأمنية للنظام رخوة، وهناك مجتمع مدني مستقل، وقنوات قضائية مفتوحة حتى لو كانت محدودة.
وفي الأنظمة القمعية الكاملة كإيران، لم يكن للنضال السلمي دور فعّال في التغيير الجذري.
حتى أشكال "العصيان المدني"، كالإضرابات وقطع الطرق، يمكن اعتبارها نوعًا من "العنف الناعم". فالبيئة السلطوية تحوّل كل مظهر احتجاجي خارج المؤسسات إلى تهديد يجب سحقه.
تجارب فاشلة متكررة
توضح تجارب التحركات الاجتماعية في إيران، خلال العقود الثلاثة الماضية، إخفاق النموذجين:
* التسعينيات (1990): محاولة الإصلاح من داخل النظام عبر حكومة خاتمي، أخفقت في تلبية تطلعات الجماهير.
* العقد الأول من الألفية (2000): احتجاجات "الحركة الخضراء" السلمية ضد تزوير الانتخابات انتهت بحبس القادة وقمع واسع.
* العقد الثاني (2010): عودة الإصلاحيين عبر حكومة روحاني لم تُحقّق حتى مطالب أساسية كحرية اللباس.
* العقد الثالث (2020): حركة «المرأة، الحياة، الحرية» كانت الأوسع والأكثر تنوعًا، لكنها رغم نجاحها الثقافي لم تنجح في إسقاط النظام.
وأظهر النظام قدرة متقدمة على استيعاب واحتواء الحركات، بل وصل إلى حد تبني شعاراتها وتفسيرها ضمن منظوره الديني، كما حدث مع شعار «المرأة، الحياة، الحرية» الذي زعم أنه يستند إلى القرآن.
ومن خلال توزيع الموارد، والقمع الأمني، والتبرير الأيديولوجي، أعاد النظام إنتاج ذاته بعد كل موجة احتجاج. والنتيجة أن جميع أشكال التحركات- السلمية أو العنيفة- اصطدمت بجدار القمع والاستيعاب.
ومن الأمثلة الواضحة على هذه الدوامة: احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2017، واحتجاجات البنزين نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وانتفاضة 2022، ومجزرة "الجمعة الدامية" في زاهدان.
وكلها انتهت بمئات القتلى وآلاف المعتقلين.
ومِن ثمّ، بات المجتمع المدني الإيراني محاصرًا بين أعمدة الأيديولوجيا، والبيروقراطية، والاقتصاد، والشرطة، والأمن، وهيكل الدولة نفسه مزوّد بأدوات تعطيل كل محاولة تغيير مدنية أو سلمية.
هذا الواقع يفرض إعادة النظر بجدية في وصفات "المجتمع المدني" و"النضال السلمي" كأدوات كافية للتخلص من النظام الإيراني.

بلغت أزمة المياه في إيران مستوى لم يعد معه هناك أي خطة لحلها، ولا حتى إرادة للتغيير. النظام الإيراني، ومنذ سنوات، يتنصل من تحمّل المسؤولية بدلًا من تقديم حلول تنفيذية وعلمية.
في هذا الوضع، باتت مسؤولية بقاء المجتمع بأكمله على عاتق الناس؛ أولئك الذين لا يملكون الموارد، ولا أدوات اتخاذ القرار، ولا وسائل المشاركة الفعّالة في هيكل الحُكم.
ومع ذلك، يضطر الناس لاتخاذ قرارات يومية، من أجل البقاء، من أجل المقاومة، ومن أجل البقاء يقظين في وسط الظلام. لكن إلى متى يمكن لهذا الاعتماد الدائم على التضامن الاجتماعي والتعاون أن يصمد؟ هل لا يزال هناك متسع للتعاطف الجماعي؟ أم إن الناس سيضطرون مجددًا إلى البحث عن طريق آخر بشكل فردي؟
السؤال عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الإيرانيون في تقرير مصيرهم، سؤال بسيط ظاهريا، لكنه جوهري. ففي أنظمة الحُكم الطبيعية، تتعامل الحكومات مع الأزمات بالاعتماد على المعرفة والتخطيط. لكن في إيران، لا وجود لأي خطط، بل إنّ بنية السلطة قائمة على تهميش الخبرات وإنكار المسؤولية. وسجل الحكومة في مواجهة الأزمات مليء بالوعود الفارغة وإنكار الواقع.
تواجه إيران اليوم مجموعة من الأزمات المتشابكة: انهيار اقتصادي، أزمة بيئية، تآكل في رأس المال الاجتماعي، وانعدام للثقة العامة. هذه الأزمات ليست فقط نتيجة سوء الإدارة، بل ثمرة عقود من إقصاء ممنهج للشعب عن عملية اتخاذ القرار.
في منطق النظام الإيراني، لا يُنظر إلى الناس كمواطنين ذوي حقوق، بل كأتباع مطيعين للولي الفقيه. القائد يُقدَّم كشخص معصوم، مُعيَّن من قِبل الله، وأي انتقاد له يُعتبر "كفرًا". هذا الهيكل يخنق فاعلية المواطن من الأساس، ويضع المجتمع في موقع لا يمتلك فيه أدوات التغيير، إلا من خلال التضحية بالنفس.
لم يعد المواطن فاعلًا سياسيًا، بل متفرج على سيناريو يكتبه نظام لا يخضع لأي مساءلة. وكل محاولة للتعبير عن الرأي تواجه بالقمع، والرقابة، والاعتقال، والإقصاء. فكيف يُمكن توقّع أن يواصل الناس التضحية، وفي النهاية يكتفون بمشاهدة دفن أبنائهم الذين قتلتهم أجهزة الأمن؟
في كل مرة حاول الناس أن يُسمعوا صوت احتجاجهم للنظام، لم يكن الرد حوارًا، بل رصاص. لم تزهق الأرواح فحسب، بل تم تمزيق النفوس أيضًا. والنتيجة: مجتمع يعيش جيلًا بعد جيل في حالة من القلق المزمن، وينشأ على قناعة أن "التغيير مستحيل".
لكن الحقيقة أن التغيير ممكن. الجميع يعلم ذلك. لا أحد يعرف متى ستُشعل الشرارة، لكن الجميع يعلم أن الشرارة، إن انطلقت، فستحرق هذا النظام وتدمره.
هذه ليست أمنية متفائلة. إنها حقيقة أثبتها التاريخ مرارًا.
الشعب الإيراني لن يتحمّل هذا الوضع إلى الأبد. وهذه الحالة غير المستقرة، وإن بدت غير قابلة للتغيير، إلا أنها ستتغير.
السؤال ليس "هل سيحدث التغيير؟"، بل "متى سيحدث؟".