لا تثقبوا سفينة النظام الإيراني!

تعليق علي شمخاني على انتشار مقطع فيديو من حفل زفاف ابنته بالقول: "نحن جميعاً في سفينة واحدة؛ رغم اختلافاتنا، لا ينبغي أن نثقب السفينة"، يبدو في ظاهره دعوةً إلى الهدوء وتجنّب تصفية الحسابات داخل أروقة السلطة.
"إيران إنترناشيونال"

تعليق علي شمخاني على انتشار مقطع فيديو من حفل زفاف ابنته بالقول: "نحن جميعاً في سفينة واحدة؛ رغم اختلافاتنا، لا ينبغي أن نثقب السفينة"، يبدو في ظاهره دعوةً إلى الهدوء وتجنّب تصفية الحسابات داخل أروقة السلطة.
لكنّ هذه العبارة ليست مجرّد نصيحة أخلاقية، بل إنذار سياسيّ موجه إلى الخصوم، يحذرهم من أن حملات التسريبات والفضائح الإعلامية قد تُزعزع التوازن الهشّ الذي يقوم عليه النظام.
لقد أثار مقطع زفاف ابنة شمخاني فوراً موجةً من الغضب والانتقاد الشعبي. ففي مجتمع يُواجَه فيه المواطنون بأقسى أشكال القمع لأبسط مخالفات الحجاب، ويعيش كثيرون تحت ضغوط اقتصادية خانقة، يُمثّل هذا التناقض الفاضح بين حياة الطبقة المرتبطة بالنظام ومعاناة المواطنين الشرارة التي يمكن أن تشعل برميل البارود. وأمام هذا الغضب الشعبي، حاول شمخاني عبر استدعاء مفهوم "المصلحة العامة" أن يُمسك بزمام الصراع الداخلي.
من المقصود بـ"السفينة"؟
حين يتحدث رجل أمني مثل شمخاني عن "السفينة"، يجب التساؤل عمّا إذا كانت هذه السفينة رمزاً للنظام السياسي بأكمله أم مجرّد تمثيلٍ لشبكة محدودة من المصالح الاقتصادية والسياسية. ويمكن تفسير هذه الاستعارة بطريقتين: سفينة النظام الإيراني، أو سفينة الأوليغارشية.
فإذا كان المقصود النظام السياسي ومؤسساته الرسمية، فإن عبارة "نحن جميعاً" تُشير إلى ضرورة الحفاظ على التماسك العام لتجنّب الانهيار. هذا التفسير مفهوم من منظور أمنيّ، إذ يسعى المركز الحاكم إلى منع أي تهديد قد يُزعزع الاستقرار.
لكن القراءة الأخرى ترى في "السفينة" تجسيداً مأساوياً لبنيةٍ مافياوية من المصالح؛ شبكةٍ تستفيد من العقوبات والريوع والمناصب الحكومية، وقد أعدّت لأعضائها "قوارب نجاة" خاصة. في هذا السياق، فإن "ثقب السفينة" يعني كشف شبكات الفساد وتقاسم الغنائم، وهو أمر ينعكس على المواطنين العاديين فقراً وتدهوراً في الخدمات، لكنه بالنسبة لأصحاب السلطة يهدد بخسارة مكاسبهم المتراكمة.
من الذي سيغرق؟
تُظهر التجربة الأخيرة للبلاد أنه كلما اهتزّ الاقتصاد أو تراجعت الشرعية العامة، كان العبء الأكبر يقع على كاهل الطبقات الدنيا والمتوسطة: ارتفاع الأسعار، تراجع الخدمات، وزيادة القمع الأمني، بينما تبقى الدوائر الداخلية للسلطة ــ بفضل امتلاكها الموارد والمعلومات وشبكات النفوذ ــ أقل تضرراً، لأنها تمتلك "قوارب نجاة" سياسية واقتصادية. لذا، حين يقول شمخاني "سنغرق جميعاً"، فإنه يتحدث في الواقع من داخل منظومة الحكم، عن أولئك المستعدين للتسوية فيما بينهم حفاظاً على بقاء البنية العامة. أما بالنسبة لعامة الناس، فـ"الغرق" هو واقعٌ يوميّ مستمر.
النتائج والدلالات الاستراتيجية
إن نشر مثل هذه المقاطع يُظهر تآكل الرأسمال الرمزي للنظام؛ فشرعية السلطة التي كانت تقوم على خطابٍ أخلاقي تواجه اليوم رأسمالية داخلية متوحشة وتناقضاتٍ أخلاقية صارخة. كما أن الصراعات الداخلية والتسريبات المتبادلة تُضعف التماسك السياسي على المدى البعيد، وقد تدفع نحو مزيد من الاضطراب الإداري.
وتُبيّن ردود الفعل العامة أن الناس باتوا يتعاملون مع الأحداث بما يتجاوز الغضب اللحظي؛ إذ حوّلوا سنوات المعاناة إلى ذاكرة جماعية تُنتج استجابةً سياسية فورية مع كل فضيحة جديدة.
بالنسبة لغالبية الإيرانيين، "السفينة" مثقوبة منذ زمن بعيد؛ ليس بمعنى ظهور خطر جديد، بل لأن بنية توزيع المنافع والأمن كانت على الدوام غير عادلة.

بعد سنوات من الجدل والمناوشات بين البرلمان، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وقعت إيران في النهاية على اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب (CFT) وانضمت رسميًا إلى اتفاقية الأمم المتحدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب.
القانون الذي يُعدّ في معظم دول العالم أمرًا بديهيًا لا يثير أي ضجة إعلامية، تحوّل في إيران إلى معركة سياسية كبرى، لم تكن فقط حول مضمون الاتفاقية، بل حول تعريف الإرهاب، ومستوى الشفافية المالية، ومدى استقلال البلاد عن النظام المالي العالمي.
لفهم أهمية هذا القرار، يجب العودة إلى عدة سنوات مضت، حين وضعت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) إيران على قائمتها السوداء، ما يعني ببساطة أن البنوك العالمية امتنعت رسميًا عن التعامل مع إيران بسبب تقييمها كدولة عالية المخاطر في مجال غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
والنتيجة؟ حتى خلال فترة الاتفاق النووي، عندما رُفعت العقوبات مؤقتًا، رفضت البنوك الأوروبية التعامل مع طهران، فأصبحت الأموال تُنقل في حقائب، وبقيت التجارة الخارجية الإيرانية في حالة عزلة شبه تامة.
كانت اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب واحدة من أربع لوائح تشريعية قدّمتها حكومة حسن روحاني للخروج من القائمة السوداء لـ"FATF" اللوائح الثلاث الأخرى كانت:
1. تعديل قانون مكافحة غسل الأموال.
2. تعديل قانون مكافحة تمويل الإرهاب.
3. الانضمام إلى اتفاقية باليرمو لمكافحة الجريمة المنظمة.
لكن في إيران، حيث يمكن لأي مصطلح أن يُفسّر أمنيًا، أصبح مفهوم "الإرهاب" إشكاليًا. فقد قال المعارضون إنّ قبول اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب يعني الاعتراف بـ"التعريف الغربي للإرهاب"، وبالتالي التشكيك في دعم إيران لجماعات مثل حزب الله اللبناني، وحماس، وأنصار الله الحوثيين.
في المقابل، رأى المؤيدون أن عدم الانضمام سيؤدي إلى خنق مالي شامل، إذ لن يتعاون أي بنك في العالم مع إيران، ما سيزيد من عزلة الاقتصاد الإيراني.
لكن في الواقع، كانت العقوبات الأميركية الثانوية قد أصابت الاقتصاد الإيراني بالشلل، وجعلت تأثير "FATF" ثانويًا، خاصة أن قراراتها تُتخذ غالبًا بتأثير من واشنطن رغم طابعها "الفني وغير الحكومي".
تصديق الحكومة الحالية على الاتفاقية يأتي في وقت فقدت فيه معظم فعاليتها. فـ"FATF" لا تزال تُبقي إيران في القائمة السوداء، وحتى الدول المجاورة تخشى التعاون البنكي معها خشية العقوبات الأميركية.
وفوق ذلك، فإن عودة العقوبات الشاملة للأمم المتحدة تجعل هذه الخطوة فارغة من المضمون، وكأنها لم تصدر أصلًا.
بعبارة أخرى، فإن التوقيع على اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب في هذا التوقيت يشبه فتح المظلة بعد مرور العاصفة، خطوة متأخرة ورمزية أكثر منها عملية.
ومع ذلك، تحاول إيران أن تبعث برسالة للعالم: "نحن منفتحون على التعاون الدولي، على الأقل نظريًا."
لكن في الواقع، لا بنك أوروبي يفتح حسابًا لطهران، ولا تحويلات بالدولار ممكنة، ولا تجارة نفطية رسمية قائمة.
ومع أن تأثير هذه الخطوة محدود، إلا أنها ليست بلا أهمية مطلقة.
فمن المنظور القانوني والدبلوماسي، تمثل تقرّبًا شكليًا من المعايير المالية العالمية، ما قد يكون مفيدًا في أي مفاوضات مستقبلية أو في إعادة بناء العلاقات الاقتصادية مع الشرق.
إذ حتى الصين وروسيا، رغم شعاراتهما المناهضة للغرب، تطالبان بالشفافية المالية في التعاملات، ما يجعل من اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب أداة محتملة لتسهيل التعاون مع الشرق أكثر من الغرب.
لكن إذا أردنا قول الحقيقة بوضوح، فإن الانضمام إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب اليوم ليس إنقاذًا اقتصاديًا، بل وثيقة تسجّل التأخّر التاريخي لإيران في اتخاذ قراراتها.
فلو تم إقرارها عام2016 لكانت ذات أثر فعلي، أما الآن فهي مجرد خطوة رمزية لتأكيد أن "إيران أيضًا تلتزم بالقواعد الدولية"- بينما في الواقع لا تمر أي أموال عبر أي بنك دولي.
وفي النهاية، صادقت إيران على اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب، لكن مجموعة "FATF" ما تزال في باريس تصنّفها دولة "عالية المخاطر".
تمامًا كما يقول المثل الفارسي: "نوشدارو پس از مرگ سهراب"، أي: "الدواء بعد موت سهراب".

بدأ يوم الثلاثاء 21 أكتوبر بخبرٍ غامض لكنه كان يمتلك كل مقومات التحوّل إلى حديث الساعة واكتساح شبكات التواصل الاجتماعي؛ خبر مرتبط بالشهرة، ومشحون بالمفاجأة، والأهم أنه يروي مأساة.
في الساعات الأولى من الصباح بتوقيت إيران، كتب المدير العام لوكالة "ميزان" التابعة للسلطة القضائية للنظام الإيراني على منصة "إكس" أن "أحد الممثلين المشهورين في السينما" اعتُقل إثر شكوى تقدمت بها امرأة بتهمة "الاغتصاب".
وعلى الرغم من أن المنشور لم يذكر اسم الممثل، فإن اسم بجمان جمشيدي – اللاعب السابق في المنتخب الإيراني ونادي "برسبوليس"، الذي اكتسب شهرة في السينما بعد اعتزاله كرة القدم – انتشر سريعاً على الألسن.
ماذا تقول الأنباء الرسمية؟
بعد أقل من ساعة من نشر هذا المنشور على "إكس"، أكدت السلطة القضائية الخبر رسمياً، لكنها اكتفت ببيان قصير كررت فيه مضمون المنشور.
وجاء في البيان: "منذ مدة، تقدمت سيدة إلى المرجع القضائي بشكوى ضد أحد الممثلين السينمائيين بتهمة الاغتصاب بالإكراه. وبعد الشكوى الخاصة وإجراء التحقيقات الفنية والعلمية، تم استدعاء الممثل الشهير وتوجيه الاتهام إليه واعتقاله".
تصريحات العقيد بابك نمكشناس، رئيس مركز الإعلام في شرطة طهران، خففت من الغموض المحيط باسم الممثل المعني، إذ أكد بشكل غير مباشر أن الممثل الذي ذُكر اسمه في وسائل التواصل وبعض وسائل الإعلام هو بالفعل الشخص المعتقل.
وأوضح نمكشناس أن الشرطة لم تتدخل في عملية اعتقال "هذا الشخص"، مشيراً إلى أن القضية تعود إلى شكوى تقدمت بها "امرأة بهوية حقيقية"، وأن الملف يُنظر فيه حالياً أمام المحكمة الجنائية الأولى في طهران.
وبحسب رئيس مركز الإعلام في شرطة طهران، فقد أُصدر استدعاء للمتهم عقب فتح الملف، ومثُل أمام المحكمة يوم الاثنين 20 أكتوبر، وبعد توجيه الاتهام تم اعتقاله وهو الآن بيد السلطات القضائية.
وذكرت الوكالات الرسمية في الداخل الإيراني أن المشتكية "فتاة في العشرين من عمرها"، وأن التهمة الموجهة إلى المتهم هي "الاغتصاب والاختطاف"، مشيرة إلى أن قرار المحكمة حوّل الكفالة إلى أمر بالاحتجاز، وأن اعتراض المتهم لم يغيّر رأي القاضي.
وأفادت وكالة "إيسنا" بأن الممثل نُقل إلى "قسم الحجر الصحي في الوحدة الثالثة من سجن قزلحصار".
وفي منتصف ليل الأربعاء 22 أكتوبر، كتب أمينرضا جلبیانلو، طبيب أسنان ومنتج فيلم "قسطنطنیه" السينمائي الذي يشارك فيه بجمان جمشيدي ويُعرض حالياً، على "إنستغرام": "حتى هذه اللحظة لم تثبت أي تهمة ضد بجمان جمشيدي بخصوص القضايا المطروحة، وجميعها مجرد ادعاءات يتم متابعتها من قبل الجهات القضائية المختصة".
وأضاف مؤكداً حضور جمشيدي جلسات التحقيق: "السيد جمشيدي، احتراماً للقانون ومن أجل كشف أبعاد القصة، شارك شخصياً في جلسات المحاكمة، وسيتم إعلان التفاصيل لاحقاً عبر محاميه بعد اتضاح الحقائق".
ماهك جمشيدي، شقيقة بجمان جمشيدي، شاركت المنشور مباشرة بعد صدوره على صفحتها في "إنستغرام".
لماذا لم يكن للشرطة دور في اعتقال المتهم؟
توضح المحامية شيما قوشه، التي تولت الدفاع عن نساء في قضايا مشابهة مثل قضية كيوان إمام وردي وقضية "الاغتصاب في سيارة الإسعاف"، أن النظر في قضايا الاغتصاب من اختصاص المحكمة الجنائية في كل محافظة، ما يعني أن المحكمة تتولى مباشرة التحقيق دون المرور بمرحلة النيابة العامة.
وفي مقابلة مع موقع "اطلاعات أونلاين"، شرحت إجراءات التقاضي في مثل هذه القضايا قائلة: "بعد تقديم الشكوى، إذا كانت الأدلة والشهادات المقدمة من المشتكية كافية لإقناع القاضي، يتم استدعاء المتهم إلى المحكمة وتوجيه الاتهام إليه".
وتشير المادتان 237 و238 من قانون الإجراءات الجنائية إلى أن إصدار قرار التوقيف المؤقت في الجرائم التي يعاقب عليها القانون بـ"الإعدام أو قطع الأعضاء أو السجن المؤبد" أمر "مجاز" بشرط أن يكون مسبباً ومستنداً إلى أحكام القانون من قبل القاضي.
وبالتالي، في تهمة مثل الاغتصاب بالإكراه التي يمكن أن تصل عقوبتها إلى الإعدام وفق المادة 224 من قانون العقوبات الإسلامي، تمتلك المحكمة سلطة إصدار قرار بالاحتجاز المؤقت استناداً إلى هاتين المادتين.
وأكدت قوشه أنه إذا تم إرسال بجمان جمشيدي – أو أي شخص آخر – مباشرة إلى السجن بعد الاستدعاء، فهذا يعني أن القاضي "اقتنَع بارتكاب الجريمة، وقبل الأدلة، واعتبر وقوع الاغتصاب مثبتاً في هذه المرحلة".
قضية واحدة أم أكثر؟
بعد تأكيد الشرطة الخبر، نشرت وكالة "إرنا" الرسمية تقريراً – تم حذفه لاحقاً من موقعها – قالت فيه: "إن هذا الممثل كان قد اتُّهم بالاغتصاب سابقاً أيضاً، وتمكن حينها من إسكات المشتكية عبر الترغيب المالي".
ونقل موقع "همشهري أونلاين"، التابع لبلدية طهران، عن مصدر وصفه بـ"السينمائي والمنتج"، من دون ذكر اسم جمشيدي، قوله إن "هذا الممثل سبق أن واجه قضية مماثلة وتمكن من إسقاطها بدفع المال، ثم عاد إلى الساحة السينمائية".
ردود الفعل: من خيبة الأمل إلى لوم الضحية
نشر أحد المستخدمين على منصة "إكس" صورةً لجمشيدي إلى جانب إحدى معجباته، وكتب: "بجمان حتى لا يُحرج الفتاة يضم ذراعيه بالكامل. أياً كانت الحسابات، من المستحيل أن يفعل شيئاً كهذا".
وقال آخر: "أعتقد أن بجمان جمشيدي رجل ذكي... أستبعد جداً أن يقع في مثل هذا الفخ، اعتقاله غريب فعلاً".
وأشار كثير من المستخدمين إلى شهرة جمشيدي وثروته، متسائلين: "بإمكانه إقامة علاقة مع أي امرأة، فلماذا يغتصب؟".
في المقابل، رأى آخرون أن إثارة قضية اغتصاب واختطاف بهذا التوقيت تهدف إلى التغطية على ضجة زفاف ابنة شمخاني، فيما طرح بعضهم فرضية ابتزازه من قِبل امرأة بهدف المال.
كلمة "ابتزاز" أعادت إلى أذهان البعض فيلم "علفزار" من إخراج كاظم دانشي، المبني على قضية اغتصاب جماعي حقيقية في يونيو 2011 عُرفت باسم "قضية خُميني شهر".
في هذا الفيلم، يؤدي بجمان جمشيدي دور القاضي في القضية. وفي أحد المشاهد، تسأله إحدى الضحايا: "هل لأننا كنا سُكارى، يحق لهم اغتصابنا؟ هل هذا هو القانون؟".
فيرد القاضي بتعداد الحجج المعتادة التي تُوجَّه إلى ضحايا الاعتداءات الجنسية: "كيف كنتِ فاقدة الوعي وتتذكرين؟ لماذا لم تذكري لي في البداية أنك شربتِ الكحول؟" ثم يرفع صوته قائلاً: "كنتِ سكرى! وشهادات مرافقيك لا تؤيدك! وتقولين لي تم الاعتداء عليكِ! من أين تعرفين أنهم هم؟ ربما كان آخرون!".
وحين تؤكد الضحية أنها متأكدة وتتذكر وجوههم جميعاً، يرد القاضي: "يجب إثبات ذلك، هذه محكمة، لا يمكن لأي شخص أن يفتح الباب ويقدم ادعاءً فنصدّقه. ربما أنتِ من تحاولين الابتزاز!".
وعلى الرغم من أن كثيرين دافعوا عن المشتكية في القضية الحالية مؤكدين أن "وقوع الجريمة ليس مستحيلاً من أي شخص"، فإن خطاب لوم الضحية ما زال هو السائد في شبكات التواصل، خصوصاً في الصفحات ذات الجماهيرية الواسعة.
لماذا يميل المجتمع إلى الوقوف بجانب الجاني؟
يرى كثير من المحللين أن جذور هذا الميل تعود إلى الثقافة الذكورية السائدة وإلى الصور النمطية ضد النساء التي شكّلت عبر السنين البنى الاجتماعية وظلالها لا تزال حاضرة في كل المجالات، وهي بنية يصعب تفكيكها.
لكن هناك تفسيراً آخر أقل تناولاً، يركّز على الطبقات الذهنية والمعرفية في النفس البشرية، ويربط ميل الناس إلى لوم الضحية بآلية نفسية تُعرف باسم "فرضية العالم العادل".
إذ يميل معظم الناس – وربما جميعهم – إلى الاعتقاد بأن العالم عادل، وأن كل ما يحدث لنا هو نتيجة أفعالنا. وهو الاعتقاد الذي عبّر عنه سعدي بقوله: "افعل الخير وألقه في دجلة، فالله سيعيده إليك في الصحراء".
ذهن الإنسان يجد صعوبة في تقبّل فكرة أن "الأشياء السيئة تحدث لأشخاص طيبين" من دون أن تكون لهم يد فيها.
فالإيمان بعدم وجود عدالة يهدد شعور الناس بالأمان والبقاء، لذلك يفضّلون تهدئة أنفسهم بعبارات مثل: "لو كانت المرأة أكثر حذراً"، أو "لو لم تلبس هكذا"، أو "لو لم تُغْوِ الرجل" لما تعرضت للاعتداء.
وهكذا يقنعون أنفسهم: "أنا في مأمن من ذلك، لأنني حذِر، وأرتدي اللباس المناسب، ولا أُغري أحداً".
لكن هذه الآلية الدفاعية النفسية لها ثمن باهظ؛ فهي تؤدي إلى إلقاء اللوم على الضحية، وتهميشها أكثر، وتفتح الطريق أمام الجاني للإفلات من العقاب، إذ يجد ملاذاً في أحكام المجتمع وانحيازاته، ويظل مختبئاً في الظل.

أُصيب محتج إيراني بالرصاص خلال انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" يعيش مع أكثر من 80 رصاصة معدنية مستقرة في جسده، ويعاني ألماً مستمراً، ويكافح اليوم مع خوف دائم من الترحيل من تركيا إلى إيران، حيث قد يواجه عقوبة قاسية.
وقال آريا أستاد إبراهيمي، البالغ من العمر 22 عاماً، في حديثه إلى قناة "إيران إنترناشيونال"، إنه جُرح بشدة على يد القوات الأمنية في النظام الإيراني خلال احتجاجات مدينة مهاباد الكردية في خريف عام 2022، وبعد تهديدات متكررة له ولأسرته اضطر إلى الفرار من البلاد.
وأضاف موضحاً أنه جُرح على يد قوات النظام الإيراني القمعية قائلاً: "في ذلك اليوم، عندما هاجموا المتظاهرين، ساعدتُ امرأة وطفلها الصغير على الهروب. أنقذتُ حياتهما، لكنني أُصبت من مسافة قريبة بطلقات نارية كثيرة وأُصبت بجروح خطيرة."
وقال إبراهيمي إن كلتا ساقيه أُصيبتا بطلقات الخرطوش.
وأضاف في حديثه إلى "إيران إنترناشيونال": "لأن مدينة مهاباد كانت تحت الحكم العسكري، نُقلت إلى قرية بدلاً من المستشفى، وهناك أخرجوا بعض الرصاصات، لكن حوالي 80 رصاصة بقيت داخل جسدي."
وقال إن الأطباء أكدوا لاحقاً أن كثيراً من الرصاصات استقرت بالقرب من ركبتيه وأوعيته الدموية، مما جعل الجراحة مستحيلة.
وأضاف إبراهيمي: "الألم لا يتوقف أبداً. عندما أنام، إذا تحركت على جنبي أو وضعت يدي تحت رأسي، أستيقظ من شدة الألم. الأمر أشبه بأن أحداً يضغط بإبرة على معصمي."
من الاحتجاج إلى المنفى
قبل الانتفاضة، كان إبراهيمي ملاكماً وعدّاءً يستعد لدراسة القانون. لكن حياته تغيّرت تماماً في اليوم الذي شارك فيه في جنازة زانيار أبوبكري، أحد المحتجين الذين قُتلوا في أحد أكثر أيام احتجاجات مهاباد دموية.
وقال متذكراً: "الناس في مهاباد ضُربوا وأُطلق عليهم الرصاص بوحشية. لم أستطع أن أقف مكتوف اليدين دون أن أفعل شيئاً." بعد إطلاق النار، اختبأ إبراهيمي في منزل آمن لتفادي الاعتقال.
وداهمت قوات الأمن منزل أسرته مرات عدة وهددت باختطاف شقيقته البالغة من العمر تسع سنوات إذا لم يسلم نفسه.
وقال: "جاءوا ليلاً وهم يحملون أسلحة. شقيقتي الصغيرة لم تتعافَ بعد من رعب تلك الليالي."
وفي النهاية، فرّ من إيران ولجأ إلى تركيا، لكنه، بحسب قوله، لم يجد الأمان هناك أيضاً.
الخوف في المنفى
وقال إبراهيمي إن وضعه كلاجئ أُلغي، وعليه أن يقدّم تقارير دورية إلى السلطات، ويخشى أن تؤدي هذه الإجراءات في النهاية إلى اعتقاله وترحيله.
وأوضح إبراهيمي: "الحكومة التركية ألغت إقامتي ووضع اللجوء الخاص بي، وأنا الآن أشتري الوقت فقط من خلال محامٍ. عليّ أن أذهب كل بضعة أسابيع إلى إدارة الهجرة للتوقيع، وفي كل مرة أذهب أشعر بالخوف. رأيت بأمّ عيني كيف يُعتقل لاجئون سياسيون مثلي أثناء التوقيع ويُعادون إلى إيران."
وقال إن هذا الخوف جعل حياته اليومية لا تُطاق: "لا أستطيع النوم. أخاف أن يأتوا إلى منزلي ويأخذوني. إذا أعادوني، سيكون حكمي الإعدام. أعرف جيداً ما الذي سيحدث لي في إيران."
أزمة متفاقمة للاجئين الإيرانيين
قصة إبراهيمي جزء من أزمة أوسع يواجهها اللاجئون الإيرانيون في تركيا. كانت قناة "إيران إنترناشيونال" قد نشرت تقارير عن كيفية تعرض المعارضين السياسيين والمعترضين الذين فرّوا من إيران لخطر الاعتقال وسوء المعاملة وفي بعض الحالات الترحيل.
وفي يناير، عرضت القناة قصة "سينا رستمي"، لاجئ إيراني يبلغ من العمر 35 عاماً، محتجز في مركز ترحيل تركي.
رستمي، الذي كان أيضاً من المعارضين السابقين في احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية"، قال إنه كان يستيقظ مراراً على يد حراس يضربونه بالهراوات، وأُجبر على العيش في أقسام مزدحمة وقذرة.
قال رستمي في ذلك الوقت: "طريقة تعاملهم معنا هنا تجعلنا نشعر وكأننا لسنا بشراً."
وفي فبراير، نشرت القناة تقريراً عن "ناهيد مدرسي"، لاجئة وناشطة إيرانية، فقدت وضعها كـ"شخص تحت الحماية" بعد أن سلّمت الأمم المتحدة مسؤولية ملفات اللجوء إلى أنقرة.
وقالت: "أعيش مختبئة لأنني أخاف جداً من الخروج إلى الشارع."
ويقدّر محامون أن آلاف الإيرانيين الذين كانوا تحت حماية الأمم المتحدة فقدوا وضعهم القانوني، وأصبحوا في خطر الاعتقال أو الترحيل.
هذه الحالات، مجتمعة، تُظهر اتجاهاً متزايداً من الضغط على اللاجئين الإيرانيين في تركيا.
وحذّرت منظمات حقوقية من أن المنفيين السياسيين تُركوا من دون حماية ويواجهون احتمال الإعادة إلى إيران، حيث يتهددهم التعذيب والسجن أو حتى الإعدام.
ورغم جروحه العميقة وحياته المليئة بعدم اليقين، لا يزال آريا أستاد إبراهيمي مصمماً على مواصلة الحديث.
و أخيراً قال بهدوء: "لم أرتكب أي جريمة. كل ما أردته هو الحرية."

يبدو المشهد السياسي الإيراني بالغ التعقيد، إذ يتكوّن من شبكة متداخلة من القوى: النظام القائم، والإصلاحيون المغضوب عليهم في الداخل، والمعارضة في الخارج، إلى جانب طموحات القوميات غير الفارسية، وتأثير الضغوط الدولية المتزايدة.
هذه العناصر مجتمعة تجعل السؤال حول من سيحكم إيران في المستقبل سؤالًا غامضًا يصعب الحسم فيه، خصوصًا في ظل غياب ثقافة قبول الآخر وانعدام الثقة بين مكونات الساحة السياسية. ومع ذلك، فإن قراءة دقيقة للمعطيات الراهنة تتيح رسم ملامح أولية للاتجاهات المحتملة في المرحلة المقبلة.
في الداخل، لا يزال النظام الحاكم يمثّل القوة المركزية المهيمنة، غير أنه يواجه هشاشة متزايدة تتجلّى في أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي الانقسامات العميقة داخل بنية السلطة ذاتها. وقد مكّنته قدرته على إعادة تدوير النخبة الحاكمة وتبديل الوجوه دون المساس بالهياكل الصلبة للأجهزة الأمنية من الحفاظ على قدرٍ من المرونة، لكنها تبقى مرونة محدودة لا تكفي لمواجهة تراكم الأزمات أو معالجة جذورها.
أما رحيل المرشد علي خامنئي المحتمل، بحكم السن والوضع الصحي، فيُتوقع أن يكون لحظة فارقة قد تُعيد تشكيل ميزان القوى الداخلي بصورة جذرية. هذا الحدث قد يقود إلى أحد مسارين متناقضين: إمّا انفجار الغضب الشعبي ونزول الشارع للمطالبة بتغيير جذري في النظام، وإما إحكام الحرس الثوري قبضته وتسريع عملية تنصيب خليفة يُرجَّح أن يكون مجتبى خامنئي، نجل المرشد، وفقًا لما تشير إليه تسريبات ومصادر مقرّبة من دوائر القرار. وقد يتم هذا الانتقال بهدوء نسبي، أو عبر تفاهمات غير معلنة مع بعض القوى الدولية لضمان استقرارٍ مؤقت، غير أنّ الشكوك تبقى عميقة حول قدرة هذا التوريث على إنتاج شرعية سياسية حقيقية. والسؤال الأهم هنا: هل سيسير مجتبى على نهج والده في ترسيخ الولاية المطلقة والهيمنة المركزية؟ أم سيتبنّى- خلافًا للمرشدين السابقين- نهجًا برغماتيًا أكثر مرونة يسعى من خلاله إلى كسب ودّ الشارع وقبول المجتمع الدولي والتخفيف من وطأة العزلة والضغوط الاقتصادية؟
لا مؤشرات واضحة حتى الآن، غير أن مجتبى يُعدّ، في نظر أوساط الحكم، الخيار الأرجح لضمان بقاء النظام واستمراريته الشكلية.
في الوقت ذاته، عادت إلى الواجهة وجوه سياسية بارزة تسعى لاستعادة مواقعها في معادلة السلطة المقبلة، وفي مقدّمتها الرئيسان السابقان حسن روحاني، ومحمود أحمدي نجاد، اللذان كثّفا ظهورهما الإعلامي في الأشهر الأخيرة وبديا أكثر جرأة في انتقاد مؤسسات النظام. هذه العودة اللافتة تعكس استعدادًا لمرحلة ما بعد خامنئي، ومحاولة لتموضع سياسي يتيح لهما أو لتياريهما لعب دورٍ في ترتيبات السلطة القادمة، سواء في إطار النظام الحالي أو في حال حدوث تحوّلٍ أعمق في بنيته السياسية.
وقد برزت داخل التيار الإصلاحي أيضا، شخصيات يمكن وصفها بـ"المغضوب عليهم" من قِبل النظام، مثل السجينين السياسيين مصطفى تاج زاده، ونرجس محمدي الحائزة على جائزة نوبل للسلام. وهؤلاء لا يتعاونون مع المعارضة في الخارج، لكنهم يمثلون تيارًا ثالثًا يسعى إلى تنظيم نفسه سياسيًا وربما لعب دورٍ محوري في مرحلة ما بعد النظام. ويحظى هؤلاء بثقة متزايدة لدى قطاع واسع من الإيرانيين بسبب مواقفهم الصريحة المناهضة لسلطة ولاية الفقيه، فيما يرى بعض المراقبين أن التيار المعتدل داخل الحرس الثوري قد يجد فيهم شركاء محتملين للحفاظ على الدولة وتجنّب الفوضى إذا ما انهار النظام القائم.
أما المعارضة في الخارج، فهي متباينة ومفتقدة للوحدة رغم حضورها الإعلامي الرمزي. حيث يتصدر التيار الملكي بقيادة ولي العهد السابق رضا بهلوي هذا المشهد من حيث النشاط والظهور، إذ يسعى لإحياء النظام الملكي، لكنه يواجه انتقادات واسعة تتعلق بضعف كاريزمته السياسية، خصوصًا عند مقارنته بوالده "الشاه"، وبفشله في بناء تحالفات متماسكة مع القوى المستقلة داخل إيران وخارجها.
كما تتهمه فصائل من الشعوب غير الفارسية- كالعرب والأكراد والبلوش- بتبنّي خطاب قومي يعيد إلى الأذهان مركزية الدولة قبل الثورة، ما يحدّ من قدرته على أن يكون صوتًا جامعًا للمعارضة، رغم وجود أصوات مؤيدة له في الداخل تظهر بين حين وآخر عبر مقاطع فيديو ترفع صوره وتطلق شعارات مؤيدة لعودة الملكية.
في المقابل، تعاني التيارات اليسارية من تباين حاد في رؤاها السياسية والاقتصادية مع الملكيين، الأمر الذي يحول دون تشكيل جبهة موحدة بين الطرفين. وتبقى منظمة "مجاهدي خلق"، محدودة التأثير داخليًا، إذ إنها لم تجدّد خطابها ولا قياداتها المرتبطة بعقلية الثمانينيات، مما أفقدها شعبيتها بين الجيل الإيراني الجديد. كما أن سجلها التاريخي في التحالف مع قوى خارجية، مثل نظام صدام حسين، لا يزال عبئًا ثقيلًا على سمعتها.
وفي خضم هذا المشهد المزدحم بالتناقضات، تبرز القوميات غير الفارسية- كالأكراد والعرب والأذريين والبلوش والتركمان- بوصفها عنصرًا حاسمًا في مستقبل إيران السياسي. فهذه المكونات تطالب منذ سنوات بنظامٍ فيدرالي أو حكمٍ ذاتي يضمن توزيعًا أكثر عدالة للسلطة والثروة، وترى أن هيمنة المركز في طهران لم تعد مقبولة. غير أنها تعاني في الوقت نفسه من ضعف التنسيق فيما بينها، فضلًا عن رفض بعض التيارات الإيرانية الأخرى التعاون معها، إذ تُتَّهم- خلافًا لشعاراتها المعلنة- بالسعي إلى تفكيك إيران عبر المطالبة بنظام لا مركزي وفيدرالي. ومع ذلك، يرى كثير من المحللين أن تجاهل مطالب هذه القوميات قد يؤدي إلى تصاعد التوتر وربما اندلاع صراعات مسلّحة جزئية، خصوصًا في حال حدوث فراغ سياسي بعد وفاة خامنئي.
تبدو إيران مقبلة على مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها أزمات الداخل مع ضغوط الخارج. فالنظام، رغم ما يمتلكه من أدوات القمع والسيطرة، يقف على أرض رخوة تُهدّده من الداخل أكثر مما تحميه.
لكن المعارضة أيضا ضعيفة التنظيم ومشتتة، ما يجعلها عاجزة حتى الآن عن تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع سياسي جامع. ورغم أن رحيل خامنئي قد يكون الشرارة التي تفتح الباب أمام تحوّلٍ عميق، فإن طبيعة هذا التحوّل- إصلاحًا كان أم انهيارًا- ستتوقف على قدرة القوى المعارضة، في الداخل والخارج، على تجاوز انقساماتها وخلافاتها الجوهرية التي مكّنت النظام من الاستمرار حتى الآن.
أما الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فيُرجَّح أن يلعب دورًا فاعلًا في مرحلة ما بعد خامنئي، ليس فقط من خلال أدوات الضغط والعقوبات، بل عبر مساعٍ سياسية تهدف إلى منع انزلاق إيران نحو صراع داخلي شامل. فهذه القوى تدرك أن تفجّر التناقضات بين التيارات الإيرانية- الإصلاحيين، والمحافظين، والمعارضة في الخارج بشقّيها الملكي والجمهوري، إضافةً إلى القوميات غير الفارسية- قد يُفضي إلى فوضى تهدد أمن المنطقة بأكملها. لذلك، يُتوقع أن تسعى العواصم الغربية بعد إدراكها لخطورة الموقف إلى تشجيع تقارب تدريجي بين أطراف المعارضة المختلفة، تمهيدًا لبناء صيغة تفاهم تضمن انتقالًا سياسيًا متدرجًا يحفظ الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي. فالغرب، وإن كان يرحّب بإضعاف النظام القائم، إلا أنه لا يرغب في انهياره الكامل الذي قد يفتح الباب أمام فراغٍ أمني وانفلات داخلي يصعب احتواؤه.

تكشف التصريحات الأخيرة لعلي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أن الخطوط الحمراء التقليدية في سياسة النظام النووية ما زالت قائمة، وأن النهج العام لا يزال يدور في فلك الرفض وعدم التعاون.
وقال لاريجاني إن "اتفاق القاهرة" من وجهة نظر إيران ملغى، مضيفاً أنه إذا كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تملك خطة أو مقترحاً جديداً بشأن عمليات التفتيش، فيمكنها تقديمه ليُبحث في المجلس الأعلى للأمن القومي.
وكان اتفاق القاهرة آخر محاولة بين إيران والوكالة بوساطة مصرية لتخفيف التوترات، في إطار مسعى لإيجاد صيغة تسمح للوكالة بالتعاون مع دولة عضو تعرّضت لهجوم عسكري، لكنها لم تنسحب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، رغم ما تكنّه من عداء عميق للوكالة دون أن تصل إلى حد القطيعة.
لكن نتيجة هذه التوترات حتى الآن كانت أن الوكالة لم تتمكّن طوال أكثر من ستة أشهر من إجراء أي تفتيش مباشر في المنشآت النووية الإيرانية، كما عجزت عن إصدار تقريرها الفصلي المعتاد.
غياب وصول المفتشين وتعطّل مسار الشفافية دفع الدول الأوروبية الثلاث– بريطانيا وفرنسا وألمانيا– إلى التلويح مجدداً بإحالة الملف الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي.
ووفقاً لمصادر دبلوماسية في فيينا، فإن الأوروبيين يعتزمون، استناداً إلى القرار الذي صدر في يونيو الماضي بشأن "عدم التزام إيران بتعهداتها النووية"، طرح مسألة الإحالة على مجلس الأمن خلال اجتماع مجلس محافظي الوكالة في نوفمبر المقبل.
هذا السيناريو يعيد إلى الأذهان عام 2010، حين أُحيل الملف الإيراني بعد شهور من الجمود إلى مجلس الأمن، وصدر القرار 1929 الذي مثّل حينها واحدة من أشد حزم العقوبات متعددة الأطراف على طهران، ومهّد الطريق أمام العقوبات الأميركية والأوروبية الأحادية.
والآن، بعدما أُعيد تفعيل القرار 1929 عبر آلية الزناد، يبقى مصير البرنامج النووي الإيراني في أروقة مجلس الأمن غامضاً – خصوصاً في ظل غياب الإجماع الدولي السابق.
تبدّل موازين القوى في النظام الدولي، ولا سيما تقارب روسيا والصين مع إيران في إطار تنافسهما مع الغرب، جعل هذين البلدين أقل ميلاً لدعم ضغوط مجلس الأمن على طهران كما في العقد الماضي.
ومع ذلك، يرى الخبراء أن موسكو وبكين لا ترغبان في مواجهة مباشرة مع الوكالة، وقد تكتفيان بالامتناع عن التصويت على أي قرار توبيخي، وهو موقف من شأنه أن يترك إيران في عزلة نسبية جديدة.
العودة إلى المسارات الدبلوماسية الرسمية ضد البرنامج النووي الإيراني، مثل الإحالة مجدداً إلى مجلس الأمن، تعكس حالة انسداد مزمن. فترامب يعلن أن البرنامج النووي الإيراني دُمّر، وخامنئي يردّ قائلاً "فليبق في وهمه"، بينما الأوروبيون يهددون بإعادة الملف إلى مجلس الأمن. جميع أعراض "المرض المستعصي" واضحة.
وفي الأثناء، أظهرت صور أقمار صناعية جديدة نشرها معهد العلوم والأمن الدولي أن إيران استأنفت أعمال البناء في مجمع يُعرف باسم "طالقان-2"، وهو موقع تضرر سابقاً في ثاني هجوم إسرائيلي على الأراضي الإيرانية.
وتقول مصادر استخباراتية غربية إن هذا المجمع جزء من شبكة تحت الأرض جديدة للنظام الإيراني مخصصة للبحث والتطوير في مكوّنات الصواعق الخاصة بالقنابل النووية.
استئناف العمل في "طالقان-2" في ظل هذه الظروف يحمل رسالة واضحة: طهران لا تعتزم التراجع، بل تفضّل الاستمرار في نهج "التصعيد المحسوب" والمواجهة المضبوطة الإيقاع.