"بنك معلومات الإيرانيين في الخارج".. تسهيل للإجراءات أم أداة جديدة للمراقبة؟

يصف النظام الإيراني، منذ سنوات، الإيرانيين المقيمين في الخارج بأوصاف مثل "مخدوعين"، و"مرتبطين بالخارج"، أو حتى "جواسيس".
"إيران إنترناشيونال"

يصف النظام الإيراني، منذ سنوات، الإيرانيين المقيمين في الخارج بأوصاف مثل "مخدوعين"، و"مرتبطين بالخارج"، أو حتى "جواسيس".

مر عام على تولي مسعود بزشكيان رئاسة الجمهورية في إيران، فترة لم تفشل فقط في تحقيق الوعود الانتخابية، بل أخفقت بشكل واضح في ثلاثة مجالات رئيسية: السياسة الخارجية، الاستجابة لمطالب الشعب، وحل الأزمات الاقتصادية.
تولى بزشكيان منصبه في قصر باستور في وقت كان النظام يسعى فيه لإعادة بناء صورته بعد الوفاة المشبوهة لإبراهيم رئيسي وإجراء انتخابات مبكرة. لكن المشاركة المنخفضة في الانتخابات كانت رسالة واضحة للسلطة: "لا نصدق هذه اللعبة". لا الانتخابات الشكلية، ولا الرئيس، ولا وعود الإصلاح الزائفة.
أدركت غالبية المجتمع، بناءً على تجارب الانتخابات السابقة الفاشلة، أن رئاسة الجمهورية في إيران بلا صلاحيات فعلية، وأن كل شيء ينحصر في بيت المرشد والحرس الثوري.
حتى مجلس صيانة الدستور وآليات الرقابة خلقت فضاءً مغلقًا بحيث لم يعد هناك شيء اسمه "انتخابات حقيقية"، بل بقيت مجرد مسرحية انتخابية.
مع ذلك، ذهبت أقلية إلى صناديق الاقتراع. صوت الكثير منهم لبزشكيان بدافع تحليل مفاده أن "مجيء جليلي سيؤدي إلى الحرب". لكن سرعان ما اتضح مدى سذاجة وخطأ هذا التحليل.
كشفت نتائج الانتخابات أن هيكل السلطة بأكمله، بما في ذلك المحافظون والإصلاحيون، بات في الأقلية. كانت المشاركة الحقيقية، على عكس الإحصاءات الرسمية التي أشارت إلى 40 بالمائة، أقل بكثير، ورسالة الشعب واضحة: "لا نثق بكم ولا بانتخاباتكم".
رغم ذلك، ادعى بعض المقربين من بزشكيان أنه "خيار النظام" ويحمل مهمة مزدوجة: التواصل مع العالم والاستجابة للمطالب الداخلية.
كما أعلن اقتصاديون بارزون، مثل مسعود نيلي، أنه إذا كان بزشكيان جادًا في التغيير، فعليه اتخاذ ثلاث خطوات أساسية:
1. إعادة بناء العلاقات مع أميركا وأوروبا.
2. الالتفات إلى المطالب السياسية والاجتماعية للشعب.
3. حل الأزمات الاقتصادية.
لكن مر عام ولم يتحقق هذا المسار، بل دخلت البلاد في حرب شاملة. وبدلاً من التغيير، تحول بزشكيان إلى مجرد منسق لوجستي لحرب خامنئي والحرس الثوري.
وكما حذر المحللون منذ البداية، فإن السلطة الحقيقية تكمن في بيت المرشد، وليس في قصر باستور. وفي ظل عجز مالي كبير في الموازنة، وجد بزشكيان نفسه مضطرًا لتأمين تمويل الحرب.
وعلى عكس ما ادعي، لم يكن لبزشكيان أي دور في السياسة الخارجية. فالملف النووي، والعلاقة مع أميركا، وقرارات الحرب كانت جميعها في يد خامنئي وقادة الحرس. واقتصر دور بزشكيان على مراقبة الأحداث وتأمين موارد الحرب.
لكن الكارثة لم تقتصر على الحرب مع أميركا وإسرائيل. فقد وصلت العلاقات مع أوروبا، التي كانت دائمًا ملاذًا آمنًا للنظام الإيراني، إلى أسوأ حالاتها. فرنسا، ألمانيا، وبريطانيا ليست فقط في مواجهة علنية مع طهران، بل وضعت مهلة 45 يومًا تشمل:
1. بدء مفاوضات مع أميركا.
2. التعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
3. توضيح مصير 408 كيلوغرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمائة.
وإذا لم يمتثل النظام الإيراني لهذه الشروط، ستلجأ أوروبا إلى "آلية الزناد"، وستعود العقوبات الأممية، وهو فشل كبير ليس فقط لبزشكيان، بل لكامل هيكل السلطة.
هذه الأزمة هي ثمرة النظرة الأيديولوجية لخامنئي للعلاقات الخارجية. في يوم مراسم التنصيب، كان واضحًا أن المرشد قال صراحةً إن "توسيع العلاقات مع أوروبا ليس أولويتنا".
وبعد عام، أصبحت نتيجة هذا التوجه واضحة: مواجهة شاملة مع أوروبا والبلاد على أعتاب مرحلة جديدة من العزلة الدولية.
داخليًا، لم تُنفذ وعود بزشكيان بالحريات الاجتماعية ورفع الحجب، بل ساءت الأوضاع.
لا يزال الحجب مستمرًا؛ "إنستغرام"، "تلغرام"، "إكس"، و"يوتيوب" محجوبة. بل إن "الإنترنت الطبقي" أصبح رسميًا؛ إنترنت حر للنخبة وإنترنت محجوب للعامة.
من ناحية أخرى، تمت المصادقة على مشروع قانون مكافحة الفضاء الافتراضي بأولوية عاجلة في الحكومة. ادعى مكتب الرئاسة أن بزشكيان "فوجئ" بهذا القانون. إذا كان هذا الادعاء صحيحًا، فهذا يعني أن الرئيس لا يعلم حتى بما يُقر في حكومته. وإذا كان كاذبًا، فهذا يعني أنه يؤيد تقييد الإنترنت وإسكات الشعب. في كلتا الحالتين، الأمر مؤلم ومثير للأسف.
حتى في المجال الاقتصادي، كان سجل حكومة بزشكيان فاشلاً تمامًا. التضخم المرتفع، زيادة أسعار الخبز، أزمة غير مسبوقة في المياه والكهرباء في العديد من المحافظات، وسخط شديد من المتقاعدين، والفلاحين، والموظفين وغيرهم من الفئات على الأوضاع المعيشية، كلها دلائل على أن هذه الحكومة لا تملك حلولاً، بل هي جزء من المشكلة.
يزعم أنصار بزشكيان الآن أنه "بلا صلاحيات، وأن خامنئي والحرس الثوري يسيطران على كل شيء".
لكن، ألم يحذر المحللون منذ البداية؟ ألم يؤكدوا أن بزشكيان ليس سوى أداة في يد بيت المرشد؟
ألم يشددوا على أن التصويت له مجرد وهم زائف؟
الآن، مع اندلاع الحرب، وتصاعد الأزمة مع أوروبا، وتلويح العقوبات العالمية بالعودة، وتدهور أوضاع الشعب يومًا بعد يوم، هل يستطيع الذين قالوا إن "بزشكيان خيار النظام وجاء للتعاون" أن يجيبوا؟ هل تحقق التعاون؟ هل جاء الهدوء؟
الجواب واضح: فشل تلو فشل.
وما نراه اليوم ليس نتيجة خطأ بزشكيان، بل نتيجة نظام سياسي استبدادي يفتقر إلى المسؤولية.

في مسلسل "تاسيان" من إخراج تينا باكروان، يغيب الوجه القمعي المعتاد لعناصر السافاك، ويُستبدل بصورة رجل حائر، يحمل نظرات حزينة وتعلّقاً عاطفياً غير مكتمل.
في وقت لم يتجاوز فيه بعدُ المجتمع آثار عنف الأجهزة الأمنية، فإن مثل هذا التصوير للماضي لا يُعد مجرد اختيار لسياق قصصي، بل هو محاولة للتلاعب بالذاكرة الجمعية، وربما لترميم وجوهٍ تبدو أقرب إلى الحاضر منها إلى الماضي.
توقّف بث الحلقات الأولى من المسلسل لبعض الوقت؛ وهو حدث اعتبرته بعض وسائل الإعلام مؤشراً على جرأة الرواية. لكن عودة المسلسل دون أي تغيير، أوضحت سريعاً أننا أمام تكتيك دعائي؛ توقّف مُتحكَّم فيه لخلق انطباع بوجود جو نقدي. هذا النموذج سبق أن تكرّر؛ حيلة مألوفة يتم فيها استخدام الرقابة لا لإسكات الصوت، بل لمنح الشرعية لنفس الصوت المسموح به.
شخصية "أمير"، عنصر السافاك، يدخل الجهاز الأمني بدافع الحب والحماية لا القمع. هذا المسار يفصل البنية السردية عن الحقيقة التاريخية، فجهاز السافاك، المسؤول عن تعقّب وتعذيب وتصفيه المعارضين، يُقدَّم هذه المرة بوجه نبيل ومعذَّب.
المسلسل محاولة لفصل الصورة الفردية للعنصر الأمني عن مسؤوليته المؤسسية، تماماً كما في الروايات الرسمية اليوم، حيث لا يُصوَّر المنتسبون إلى البُنى القمعية كفاعلي عنف، بل كأشخاص عاديين لهم همومهم الشخصية.
كانت السبعينيات مرحلة مشبعة بالسياسة، من الجامعات حتى المنازل. لكن في "تاسيان"، تم تغييب السياسة، وصوت المقاومة صامت. الشخصيات المعارضة سطحية أو متطرفة، وحواراتها أقرب إلى منولوجات غاضبة منها إلى تحليلات سياسية.
في غياب سردية النضال، يصبح العنصر الأمني هو السردية الوحيدة ذات الشرعية في المسلسل.
وبدلاً من أن يوضع المشاهد بين طرفَي التاريخ، يرى زاوية واحدة فقط، وما هو غائب أخطر مما هو حاضر.
هل نحن أمام رمادية إنسانية أم تبييض متعمّد؟
الأدب المعاصر تقبّل الشخصيات الرمادية؛ أولئك المترددين بين الخير والشر. لكن "أمير" في "تاسيان" يظهر منذ البداية كضحية لا كفاعل. يتجنب إطلاق النار، يعيش في حيرة، ولا يواجه مطلقاً تبعات دوره الأمني.
لسنا أمام شخصية رمادية حقيقية، بل أمام تطهير لهوية ما زالت في الذاكرة الجمعية مسؤولة عن القمع والسيطرة، كما هو الحال اليوم في السردية الرسمية، التي تقدّم بعض الأجهزة الأمنية لا كأذرع للقمع بل كحماة للنظام والأخلاق.
المسلسل موجَّه إلى جيل لم يعش عقد السبعينات ولا يملك صورة واضحة عنه. في ظل هذا الغياب، عندما يُقدَّم العنصر الأمني بوجه إنساني وتُهمَّش المقاومة، تترسّخ الرواية الرسمية: أن السلطة لم تكن خطرة، وأن القمع كان مجرّد سوء فهم في ماضٍ بعيد.
هذه الإعادة للكتابة لا تهدف إلى فهم الماضي بقدر ما تسعى إلى جعل وجه السلطة الحالي يبدو طبيعياً؛ الوجه الذي لا يزال يُظلّل الجامعات والشوارع والمنازل بثقله.
"تاسيان" مسلسل متقَن، بإطارات بصرية دقيقة وأداءات محسوبة. لكن جماله لا يُشكّل سوى نصف القصة. النصف الآخر هو سردية تصنع من العنصر الأمني وجهاً إنسانياً، فيما تُقصى المقاومة من المشهد.
هذه السردية، وإن سارت في هدوء شعري وتحت أضواء خافتة، فإنها في النهاية تحرم المشاهد من إصدار حكم على السلطة، ولهذا السبب تحديداً، ينبغي أخذها بجدية.

تتردّد بعض الهمسات مفادها أنه إذا تم السماح للنظام الإيراني بالبقاء، فإنه مستعد لتقديم بعض التنازلات.
وقد سُمِع أن جزءًا من أجهزة السلطة، لا سيما بعد التحولات الإقليمية وتراجع المكانة الدولية لإيران، يسعى إلى تقديم صورة أكثر اعتدالاً للنظام. لكن، هل يملك هذا النظام حقًا القدرة والإرادة للتحول إلى "دولة طبيعية"؟
وتقف إيران مرة أخرى عند مفترق سياسي مصيري؛ فمن جهة، اقتراب نهاية قيادة المرشد علي خامنئي وإمكانية حدوث انتقال في رأس هرم السلطة، ومن جهة أخرى، عودة الخطاب "الإصلاحي" من قِبل بعض الشخصيات والتيارات السياسية الإصلاحية، التي تبشّر بإمكانية عودة إيران إلى وضع "طبيعي"؛ أي إلى حكومة قادرة على التفاعل مع المجتمع الدولي، وفتح البنى المغلقة، وإحياء الفضاء المدني.
نحن أمام تعبير غير رسمي، وليس مصطلحًا فنيًا راسخًا في العلوم السياسية. فمصطلح "الدولة الطبيعية" لا يظهر كمصطلح رسمي في الأدبيات النظرية والأكاديمية للعلوم السياسية، لكن في الخطاب السياسي والإعلامي، لا سيما في التحليلات الصحفية أو نظريات الانتقال السياسي، أو بالمقارنة مع الأنظمة الاستبدادية أو الغارقة في الأزمات، يُستخدم أحيانًا كتوصيف.
والمفاهيم الأقرب له في النصوص الأكاديمية تشمل: "الدولة القائمة على سيادة القانون"، "الديمقراطية الليبرالية"، "الدولة المسؤولة والخاضعة للمساءلة"، و"الدولة ذات الكفاءة" في تقديم الخدمات العامة، وحفظ الأمن، وتنظيم الاقتصاد.
وفي بعض النظريات السياسية، مثل أفكار المفكر الألماني، كارل شميت، يُقابل "النظام العادي" بـ "النظام الاستثنائي"؛ حيث تستغل السلطة الأزمة الدائمة لتبرير الاستبداد. ومِن ثمّ، فإن "الدولة الطبيعية" ليست مفهومًا دقيقًا أو علميًا، بل هو تعبير وصفي يُستخدم عادة للإشارة إلى أنظمة لا تعيش على الأزمات، وتقوم على القانون والمساءلة.
الدولة "الطبيعية" هي النظام الذي لا يعيش في حالة صدام دائم مع شعبه أو مع المجتمع الدولي، ويعترف بحقوق المواطنين، ويتيح المشاركة السياسية الحقيقية، ويملك مؤسسات مستقلة وخاضعة للمساءلة، ولا يستخدم الأمن كأداة للقمع. في مثل هذا النظام، يُصاغ الدستور على أساس سيادة الشعب والمساواة القانونية. وللناس دور في اختيار قادتهم، ويختارون نمط حياتهم بحرية، ويتمتعون بحرية التعبير والإعلام، ولا يُجابهون بالقمع العنيف عند الاعتراض.
لقد قام النظام الإيراني على تركز السلطة؛ فالمادة 110 من الدستور تمنح المرشد صلاحيات واسعة، من تحديد السياسات العامة للنظام إلى قيادة القوات المسلحة، وتعيين وعزل كبار القضاة، وتعيين رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون وأعضاء مجلس صيانة الدستور. المرشد لا يُنتخب مباشرة من قِبل الشعب، ولا يخضع لأي مؤسسة مستقلة للمساءلة، كما أن الدستور لا يتضمن آلية واقعية لعزله.
أما مؤسسات، مثل مجلس صيانة الدستور، فهي عبر رقابتها التصحيحية، تُلغي إمكانية إجراء انتخابات تنافسية. والسلطة القضائية، بدلًا من أن تكون مؤسسة عدل، تحولت إلى ذراع للقمع السياسي، وتفتقر إلى الاستقلال عن المرشد، كما أن الأجهزة الأمنية، مثل الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات، تخضع مباشرة لقيادة المرشد، وليس للحكومة المنتخبة.
أما الإعلام الحر، والأحزاب المستقلة، والمنظمات المدنية، فإما جرى قمعها بالكامل أو أُخضعت لسيطرة النظام. فالدستور، بدلاً من أن يقيّد السلطة، يقوم بتكريسها وتعزيزها.
منذ 23 مايو (أيار) 1997 وحتى انتخابات 2021، توجه المجتمع الإيراني مرارًا إلى صناديق الاقتراع، على أمل تحقيق إصلاحات من داخل النظام؛ لكن في كل مرة، انتهى الأمر بخيبة أمل وقمع وانسداد أكبر. ففترة محمد خاتمي انتهت بالاغتيالات المتسلسلة، والإغلاق الواسع للصحف، وتضييق الحريات المدنية. وفترة حسن روحاني، التي جاءت بوعود الاعتدال والانفتاح، شهدت قمع احتجاجات يناير (كانون الثاني) 2018 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2019، ومع خلفه إبراهيم رئيسي بلغت ذروتها مع مقتل الشابة الإيرانية، مهسا أميني، المفجع أثناء احتجازها لدى "شرطة الأخلاق".
ويقول العديد من المحللين الإيرانيين، بمن فيهم مصطفى تاج زاده وسعيد حجاريان وبعض النواب السابقين، إن الإصلاح لم يعد ممكنًا من داخل هذا الهيكل. ففي كثير من الأحيان، تحوّل "الإصلاحيون" إلى صمام أمان لتنفيس ضغط الشارع، لا إلى قوة تغيير حقيقية.
صرّح المرشد الإيراني، علي خامنئي، مرارًا خلال أعوام: 2016 و2018 و2021 بأن "هيكل النظام" لا يحتاج إلى إصلاح، واعتبر كل دعوة للتغيير "مؤامرة من الأعداء". وهذا الموقف الرسمي يتكرر على مختلف مستويات السلطة.
وتقوم الآلة الإعلامية للنظام الإيراني، من وسائل الإعلام المرتبطة بمكتب المرشد إلى القنوات الرسمية، بإعادة إنتاج خطاب موحد: "حفظ النظام من أوجب الواجبات". وفي مثل هذا النظام، لا يُعد التغيير مرغوبًا فيه، بل يُعتبر تهديدًا.
حركة "المرأة.. الحياة.. الحرية" والمطالبة بالتغيير
شكّلت الاحتجاجات الواسعة عام 2022، التي اندلعت تحت شعار "المرأة.. الحياة.. الحرية"، نقطة تحول في الوعي السياسي للمجتمع؛ فقد أبرزت، من خلال انتشارها الجغرافي، وتنوعها الطبقي، وقيادتها الميدانية من قًبل الجيل الشاب، أن المجتمع الإيراني تجاوز مرحلة "المطالبة بالإصلاح" إلى مرحلة "المطالبة بالتغيير". وقد أظهرت استطلاعات رأي موثوقة أن أغلبية المجتمع، وخاصة الشباب، لم تعد تؤمن بإمكانية الإصلاح من داخل النظام.
ومثّل هذا التحول الذهني نهاية الشرعية السياسية للنظام الإيراني داخل المجتمع. والمطلب العام اليوم هو بناء نظام جديد قائم على إرادة الشعب، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، والحريات الأساسية؛ لا بقاء نظام يسعى فقط إلى الاستمرار.
إذا كان "أن تصبح دولة طبيعية" يعني الانتقال إلى نظام عرفي، خاضع للمساءلة، وديمقراطي، وقائم على حقوق الإنسان، فإن النظام الإيراني، من حيث البنية، والدستور، والتجربة التاريخية، وإرادة القادة الحاليين، تفتقر إلى أي قدرة على هذا التحول. فحتى لو تُوفيّ علي خامنئي، فإن لم تتغير البنية، فلن يختلف خليفته عنه في شيء.
وتُظهر تجارب الدول السلطوية أن تغيير القائد، دون تغيير الهيكل، لا يجلب الإصلاح. وما حدث في الصين بعد "ماو"، والاتحاد السوفيتي بعد "ستالين"، أو كوبا بعد "كاسترو"، دليل على أن "الانتقال الحقيقي" يحتاج إلى تغيير في القانون، والمؤسسات، والثقافة السياسية، وليس فقط في الوجوه.
والنظام الإيراني، في جوهره، لم يُبنَ للإصلاح؛ بل قام لترسيخ السلطة، والقضاء على كل تهديد لبقائها.

في ظل غياب دام 24 يومًا للمرشد الإيراني علي خامنئي، لم تكن المسألة أمنية فحسب، بل كانت مؤشرًا عميقًا على أزمة أكبر في بنية السلطة داخل نظام طهران، وهي زوال "الاقتدار".
الاقتدار الذي كان، حتى في ذروة القمع، يستند إلى بعض مرتكزات القبول الشعبي، وصياغة السرديات، وشعورٍ بالتماسك، تقلّص اليوم إلى مشاهد كاريكاتورية من التملّق، والعجز، والخوف، في ظلّ صمتٍ مطبق للمرشد، وقلق ظاهر في أوساط مؤيديه.
وخلال فترة الغياب تلك، وخصوصًا بعدها، تم نشر مشاهد من المديح المفرط وكتابات مليئة بالمبالغة، لم تكن تعبيرًا عن يقين، بل كانت محاولة لترميم الفراغ، الذي خلفه غياب المرشد. حتى أشدّ المؤيدين لخامنئي لم يتمكنوا من كبح الحديث عن مسألة "الخلافة"، وهي مسألة كانت سابقًا بمثابة "تابو مقدس". أما اليوم، فقد اضطُر النظام نفسه إلى الاعتماد على أدوات خارجية- أي القمع- بدلاً من الركون إلى اقتدار داخلي.
"الاقتدار" لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استند إلى سردية كبرى تحظى بقبول شعبي. سرديات يعتبرها المجتمع، حتى في الأوقات العصيبة، "ذات مغزى" و"جديرة بالدفاع عنها". فالنظام الإيراني منذ نشأته قام على سردية متعددة الطبقات: مزج التقاليد الدينية مع طموحات العدالة، ومقاومة "العدو"، وحماية الأمن القومي.
أما اليوم، فقد انهارت تلك السردية فعليًا، وما تبقى منها ليس سوى شعارات مكررة خالية من التأثير، لم تعد تثير الحماسة حتى في أوساط الموالين للنظام. الأجيال الجديدة لا تتفاعل مع تلك السردية، بل تعيش واقعًا يتناقض معها.
وبحسب عالم الاجتماع الأميركي، تالكوت بارسونز، فإن الاقتدار السياسي لا يكون فاعلاً، إلا عندما تُعتبر الالتزامات الاجتماعية "مشروعة" ومتوافقة مع "معتقدات الناس، وأهدافهم، وقيمهم".
ويقول: "السلطة هي القدرة المعممة على ضمان تنفيذ الالتزامات الإلزامية داخل النظام الجمعي. وتكون هذه السلطة فاعلة عندما تؤدي شرعية الالتزامات إلى قبول طوعي لها".
أما اليوم، فلم يعد هناك أي شرعية، ولا حتى مؤشرات على "القبول القسري". فالشعب، وبالأخص جيل الشباب، لا يتفاعل مع النظام، بل لم يعد يؤمن بأي نوع من التفاعل المعنوي معه، ما تبقى هو القوّة فقط.
ويقول الفيلسوف السياسي البريطاني، ميل تومبسون، في أحد تعريفاته المحورية: "ثمة فرق بين السلطة والاقتدار؛ السلطة هي القدرة على تنفيذ شيء ما، أما الاقتدار فهو الحق في تنفيذ ذلك الشيء".
ويضيف: "الحكم العسكري قد يتمكن من السيطرة على الناس عبر الرعب، لكن ذلك لا يعني أنه يمتلك الشرعية أو الاقتدار للقيام بذلك. فالاقتدار يتطلب رضا الشعب واتفاقًا ضمنيًا بين الحاكم والمحكوم".
وقد فقد النظام الإيراني بوضوح اقتداره، خصوصًا خلال العقد الأخير، ولم يتبقَ له سوى أدوات السلطة: السلطة القضائية، قوى الأمن، الحرس الثوري، الأجهزة الاستخباراتية، وجيوش إلكترونية. لكنها تفتقر إلى "شرعية" استخدام هذه الأدوات.
والسلطة دون اقتدار هي سلطة مستنزفة في نهاية المطاف. الأنظمة التي تعتمد فقط على القوّة، حتى وإن استمرت لفترة، فهي دومًا معرضة لعدم الاستقرار الداخلي ولتهديدات بعيدة المدى، لأن الطاعة من دون رضا، تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى مقاومة، وإنْ كانت صامتة.
وفي عصر المعلومات والاتصالات، لم تعد السلطة تُستمد فقط من فوهة البندقية.
ويؤكد واضع نظرية "القوة الناعمة"، جوزيف ناي، أن "القوة الناعمة هي القدرة على التأثير من خلال الإقناع، لا الإكراه. أي أن تتمكن الدولة من استخدام جاذبيتها الثقافية أو القيمية أو الإعلامية لدفع الآخرين إلى الامتثال".
وحاول النظام الإيراني، عبر فهمه السطحي لهذا المفهوم، استبدال الشرعية الحقيقية بـ "حرب إعلامية"، فأنفق ميزانيات ضخمة لتأسيس جيوش إلكترونية، ووكالات إعلامية مموّهة، وشبكات دعائية في الداخل والخارج. لكنه فشل ليس فقط في خلق جاذبية، بل تحوّلت تلك الأدوات إلى جزء من أزمة الشرعية نفسها. فالمتلقي اليوم أكثر وعيًا وتعقيدًا من أن يُخدَع بسهولة بدعاية ممجوجة.
والأهم من ذلك، حتى داخل البلاد، فإن آلة النظام الإعلامية فقدت فاعليتها بسبب التناقضات، والأكاذيب، والرقابة المفرطة، وإنكار الحقائق. فبالنسبة للمواطن الإيراني، الصوت الرسمي للنظام لم يعد مصدر ثقة، بل بات رمزًا لـ "تشويه الحقيقة".
ولا يزال النظام الإيراني قائمًا، فجهاز القمع يعمل، والدعاية نشطة، والمعارضون يُلاحقون. لكن هذا الاستمرار لم يعد مؤشرًا على الاقتدار، بل أصبح مجرّد علامة على امتلاك السلطة. وهي سلطة بلا جذور، خالية من المعنى، بلا أفق.
ولو اعتبرنا الاقتدار كالبناء، فإن النظام الإيراني اليوم لا يحتفظ سوى بالجدران الخارجية: العنف، التهديد، القمع. أما الداخل فقد انهار منذ زمن: الثقة العامة، المشاركة الحقيقية، السردية المشروعة، التماسك الوطني، وآفاق التنمية.
في مثل هذا الوضع، لم يعد السؤال الرئيس هو: كيف سيتصرف النظام؟ بل أصبح: إلى متى يمكن لحكمٍ بلا اقتدار أن يستمر؟

تفوح رائحة التآكل من كل شبر في إيران؛ من الهواء والتربة إلى أرواح المواطنين وأجسادهم. هذا الدمار لم يحدث فجأة، ولم يكن نتيجة قرار واحد أو عقد من الحكم السيئ فحسب، بل إن ما نشهده هو نتيجة تراكم أزمات، عامًا بعد عام، جيلاً بعد جيل، كشقوق دقيقة وعميقة شقّت بنيان المجتمع.
فالاقتصاد الإيراني ليس فقط مريضًا، بل يعيش على أجهزة الإنعاش، والتضخم المنفلت خفّض من مستوى معيشة المواطنين إلى النصف خلال العقد الماضي. والتعليم، الذي كان يمكن أن يكون مفتاح التنمية، أصبح غارقًا في التسييس وشُحّ الموارد.
جيلٌ كامل حُرم من الإبداع، والتفكير النقدي، والتعليم الجيد. البيئة وصلت إلى حافة الانهيار: الأنهار، والمستنقعات، والبحيرات تجفّ واحدة تلو الأخرى، والأرض، كمكان للعيش، تغوص كل يوم أكثر في المدن الكبرى.
وهذه ليست مجرد أمثلة أو تحذيرات بسيطة؛ إنها دلائل على انهيار تدريجي. إلى جانب ذلك، فإن الأزمات النفسية والعقلية تلعب دورًا كبيرًا أيضًا. وبحسب مسؤولي الصحة في البلاد، فإن 25 في المائة من سكان إيران يعانون شكلاً من أشكال الاضطرابات النفسية.
والاكتئاب، والقلق، والشعور بانعدام القيمة في تزايد مستمر بين الشباب والمراهقين، أما هجرة النخب، التي كانت يومًا ما ظاهرة محدودة، فقد تحولت الآن إلى موجة واسعة؛ حيث يغادر عشرات الآلاف من المتخصصين، والأطباء، والمهندسين وخريجي الجامعات المرموقة البلاد كل عام.
وجيل اليوم مختلف جذريًا عن الأجيال السابقة؛ لا لأنه أفضل منها، بل لأنه نشأ في ظروف مختلفة تمامًا، هذا الجيل نشأ منذ الطفولة وسط الأزمات؛ ليس فقط الأزمات الاقتصادية أو السياسية، بل أزمة في المعنى ذاته.
فعندما تغيب الثقة في أي مؤسسة عامة، وعندما يكون التعليم بلا جودة، والإعلام الرسمي بعيدًا عن الحقيقة، ويصبح النجاح والتقدم لا يمران عبر الجدارة، يجد الشاب الإيراني نفسه أمام سؤال وجودي: لماذا أبقى؟ لماذا أُكافح؟ ولأي مستقبل؟
لكن في خضم هذه الأسئلة، توصّل هذا الجيل إلى شيء آخر: الواقعية الراديكالية؛ فلم يعد كثيرون يؤمنون بإصلاح تدريجي للنظام السياسي، ولم يعد أحد يثق في الوعود الرسمية.
ورغم أن انعدام الثقة هذا مؤلم، فإنه يشكّل في الوقت ذاته فرصة لإعادة البناء من الأسفل إلى الأعلى. جيل اليوم، بدلاً من انتظار التعليمات أو الحلول من فوق، ينظر إلى قدراته الصغيرة والجماعية.
وظهور مجموعات مستقلة، والسعي لتعلم مهارات جديدة، زيادة الوعي الرقمي، وحتى الانتفاضات الاحتجاجية- رغم قمعها- التي كسرت جدار الخوف، كلها مؤشرات على تشكل وعي جديد.
وفي عام 2022، أظهرت انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" أن هذا الجيل يتحدث لأول مرة بلغة عالمية. شعارات هذه الانتفاضة لم تكن أيديولوجية بالية أو تقليدية، بل انبثقت من التجربة المعيشة لهذا الجيل الجديد. جيل اليوم يصوغ روايته لإيران من خلال الجسد، والصورة، والموسيقى، ووسائل الإعلام الجديدة، ويوصلها إلى العالم.
وإلى جانب هذا الوعي السياسي والاجتماعي، ينظر الشباب إلى التكنولوجيا كأداة تمكين؛ حيث إن تزايد عدد الشركات الناشئة، والأعمال الرقمية، والمبرمجين المستقلين، والإبداع في منصات مثل "إنستغرام" و"يوتيوب"، جميعها مؤشرات على سعي نحو الاستقلال عن الهياكل المتهالكة.
وقد لا تُحدث هذه الجهود تغييرًا على مستوى النظام، لكنها تخلق على الصعيدين الفردي والجماعي طاقات يمكن أن يُبنى عليها مستقبل إيران.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل العبء النفسي الهائل. هذا الجيل عليه أن يعيش، ويناضل، ويصنع المستقبل في آنٍ واحد. لكن في أي مجتمعٍ سليم لا تُلقى هذه المسؤوليات على عاتق الشباب، لأن هذا ليس دورهم أصلاً.
أما في إيران، فهذا العبء غير العادل هو الواقع اليومي لملايين الشباب. عليهم أن ينموا في نظامٍ تعليمي يُهينهم، ويبدعوا في بيئة يُقمع فيها الفن والفكر، ويبنوا مستقلاً في مجتمع لا يرسم لهم أي أفق.
وفي غياب المؤسسات المستقلة، تحمّل الشباب الإيراني مسؤوليات يجب أن تكون على عاتق البنى السياسية، والثقافية والاقتصادية. عليهم أن يكونوا خريطة الطريق، والسائق، والوقود في آنٍ واحد.
وهنا يطرح السؤال الجوهري نفسه: كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن خلق مستقبل جديد من وسط الخراب؟ الجواب: ليس بالمعجزات، ولا بالثقة في البنى المتداعية، بل بإعادة بناء العلاقات الاجتماعية بشكل تدريجي ومتصاعد. فتكوين الشبكات، الحوار العام، التعليم المستقل، العمل الجماعي وتعزيز الروح الجمعية، كلها أدوات البناء الحقيقي.
كما رأينا في الانتفاضات الاجتماعية الأخيرة، فإن قوة هذا الجيل تكمن في "أن يكونوا معًا"، وليس في انتظار المساعدة من الأعلى. هذا الجيل، على عكس الماضي، لم يعد يؤمن بالبطل الفرد؛ بطله هو الجماعة.
وفي هذا السياق، فإن بناء المستقبل لا يعني ترميم ما انهار، بل يعني تخيّل ما لم يوجد أصلاً: مجتمعٌ عادل، شفاف، وحر. وهذا هو عمل جيلٍ جُرح وأُرهق، لكنه لا يزال حيًا.
جيلٌ قد لا يملك أملًا بالمعنى الكلاسيكي، لكنه لم يفقد خياله. والخيال هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن لقوى القمع أن تدمّره.
إيران سيُعاد بناؤها على يد هذا الجيل؛ فإعادة البناء تبدأ بالاعتراف بالدمار. وهذا الجيل قد اعترف به بالفعل؛ والآن حان وقت البناء.
لكن الآن، وبحركة تبدو مختلفة ظاهرياً، طرح النظام مشروع قانون تحت عنوان "دعم الإيرانيين في الخارج"؛ وهو مشروع قانون يُلزم الحكومة بموجبه بإعداد بنك معلومات شامل عن هؤلاء المواطنين خلال ستة أشهر، وتقديم تقرير سنوي عن أوضاعهم إلى لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني.
تنص المادة الخامسة من هذا المشروع على أن وزارة الخارجية مُلزَمة بإعداد بنك معلومات شامل عن الإيرانيين المقيمين في الخارج وتصميم آليات لإقامة "اتصال دائم" بهم.
كما تُلزَم الحكومة بتقديم تقرير سنوي عن أداء هذا البنك إلى لجنة الأمن القومي في البرلمان.
ظاهرياً، تُطرَح أهداف مثل تسهيل الخدمات القنصلية، واستقطاب النخب، وتعزيز التواصل مع الإيرانيين في الخارج، لكن النص لا يشير من قريب أو بعيد إلى أن تسجيل المعلومات اختياري، ولا إلى وجود رضا فردي أو شفافية في طريقة جمع البيانات أو ضمانات لحماية الخصوصية.
هذا النظام أقرب إلى أداة لتعقّب، وتصنيف، ومراقبة المهاجرين الإيرانيين، منه إلى وسيلة للتفاعل الطوعي.
التجربة الحيّة للمهاجرين: عودة بطعم الاعتقال
في الذاكرة الجمعية للإيرانيين المقيمين في الخارج، لا ترتبط العودة إلى الوطن بالترحيب، بل بالاستدعاء، أو الاعتقال، أو الصمت القسري.
الشخصيات التي عادت إلى الوطن وواجهت ملفات أمنية، واستجوابات قاسية، وحرماناً اجتماعياً، تشهد على هذه الذهنية الأمنية.
حتى الشعارات من قبيل "الإيراني هو إيراني، سواء في الداخل أو في الخارج"، التي يرددها رئيس البرلمان في جنيف، لا تعني في الواقع سوى مظهر دبلوماسي فارغ.
في وقت تواجه فيه إيران أزمات اقتصادية، واجتماعية، وبيئية متعددة مثل انقطاع المياه والكهرباء، والقمع الواسع، والهجرة المتزايدة، يبرز سؤال مهم: لماذا تذكّر النظام الآن "الإيرانيين في الخارج"؟ هل هذا المشروع محاولة لاستعادة الثقة، أم غطاء لتعزيز الشبكات الرقابية والأمنية العابرة للحدود؟
تجربة الأنظمة المعلوماتية السابقة للنظام الإيراني، من تسجيل الدعم النقدي وبطاقات الوقود إلى أنظمة تتبع النشطاء السياسيين، أثبتت أن "بنك المعلومات" في هذا النظام لا يحمل مفهوماً إدارياً فحسب، بل غالباً ما يتحول إلى أداة لإعداد الملفات والسيطرة.
الهجرة أم التجريم الصامت؟
النظام الإيراني يقول الآن إنه يعفو عن المهاجرين الإيرانيين، لكن هذا "العفو" يشير إلى أية "جريمة"؟ هل الهجرة أو الدراسة أو العيش بحرية تُعدّ جريمة؟ كيف يمكن لحكومة كانت مسؤولة عن مصادرة ممتلكات، وتهديد، وتعذيب، وسجن آلاف الإيرانيين، أن تتقمص الآن دور المُسامِح؟
هذا هو نفس المنطق المعطوب الذي يصور المهاجر كمذنب، والنظام كقاضٍ ومُسامح. في مثل هذا الهيكل، تحلّ الشكوك والإدارة الأمنية محل الشفافية والثقة.
مشروع قانون "دعم الإيرانيين في الخارج"، في الواقع، ليس استجابة لحاجات إنسانية أو حقوقية أو ثقافية للمهاجرين، بل هو تجلٍّ لنفس النظرة الأمنية العميقة الجذور لدى النظام الإيراني؛ نظرة ترى في المجتمع لا مواطنين، بل كتلة سكانية محتملة الخطورة. هي النظرة نفسها التي تتجلى داخل البلاد بالقمع، وخارجها بالتعقّب والسيطرة.
في ظل غياب أي ضمان قانوني لحماية الخصوصية، ومن دون شفافية أو موافقة فردية، فإن "بنك المعلومات" الوارد في هذا المشروع ليس سوى أداة جديدة للمراقبة، والسيطرة، والإدارة السياسية للمجتمع المهاجر. إنها نفس الذهنية القديمة، في ثوب جديد.