في ظل الهدنة.. خامنئي العدو الحقيقي لإيران

لم يمضِ وقت طويل على الهدنة المؤقتة بين النظام الإيراني وإسرائيل، لكن كل المؤشرات تدل على استمرار المواجهة والحرب، ليس فقط على الجبهة العسكرية، بل أيضًا على الأصعدة السياسية والإعلامية والدينية.
"إيران إنترناشيونال"

لم يمضِ وقت طويل على الهدنة المؤقتة بين النظام الإيراني وإسرائيل، لكن كل المؤشرات تدل على استمرار المواجهة والحرب، ليس فقط على الجبهة العسكرية، بل أيضًا على الأصعدة السياسية والإعلامية والدينية.
ومن المعروف أن الحرب ليست لعبة بين القوى العظمى، بل كارثة إنسانية؛ فهي تعني الدمار والانهيار. لكن مجرد إعلان معارضة الحرب لا يكفي، ويبقى السؤال الجوهري هو: مَن يمهّد الطريق لاستئناف الحرب؟ ومن خلال أي أفعال؟
وفي الوقت الذي تلتقط فيه المنطقة أنفاسها بفعل هدنة هشة وضغوط دولية، تُستهدف سفن تجارية في البحر الأحمر، ويُقتل بحارة مدنيون أو يُؤخذون كرهائن، وتُطلق صواريخ تحمل توقيع النظام الإيراني باتجاه إسرائيل. الحرب ربما انتهت شكليًا، لكن شكلها فقط هو ما تغيّر.
وقد سلّم النظام الإيراني ساحة المعركة إلى ميليشياته الوكيلة، وتحديدًا الحوثيين، وأعلن صراحة أنه "لا يزال في حالة حرب". ففي أقل من 48 ساعة، تبنّى الحوثيون في اليمن الهجوم على سفينتين باستخدام طائرات مُسيّرة وقنابل يدوية، ما أسفر عن مقتل 4 أشخاص وفقدان 15 آخرين.
وفي الوقت نفسه، أُطلق صاروخ من طراز "ذو الفقار" المصنوع في إيران باتجاه مطار بن غوريون في تل أبيب؛ قالت إسرائيل إنها اعترضته، لكن الرسالة السياسية كانت واضحة: لا وجود لهدنة حقيقية.
لماذا يكرهون السلام؟
في إيران، فور الإعلان عن الهدنة، بدأت المنابر تعلو، وصدرَت الفتاوى، وتحركت الهيئات الدينية لجمع الأموال من أجل تنفيذ عمليات اغتيال. وتحدّث التلفزيون الرسمي عن "الاستعداد للضربة القاضية"، وخُطب الجمعة عن "الانتقام القاسي".
وفي "الحسينيات"، وتحت شعار "العقاب الإلهي"، جرى جمع التبرعات لاغتيال الرئيس الأقد صدرت فتاوى من رجلي الدّين: آية الله مكارم الشيرازي ونوري همداني، تصف ترامب ونتنياهو بأنهما "محاربان" ويستحقان عقوبة "الإفساد في الأرض". ثم سارعت وسائل الإعلام الحكومية إلى إعلان أن مبالغ ضخمة قد جُمعت لتنفيذ هذه الفتاوى.
ومع تصاعد ردود الفعل الدولية، بدأ تراجع دعائي: قيل إن هذه "آراء فقهية" وليست "أوامر تنفيذية". لكن هذه "الآراء" تتكرر باستمرار في المنابر، ووسائل الإعلام التابعة للحكومة الإيرانية والحرس الثوري، وشبكات التواصل الاجتماعي المؤيدة للنظام، وتتحول إلى أدوات في ماكينة التحريض وإنتاج التوتر.
مشهد محسوب بدقة.. من الفتوى إلى الصاروخ والموت
لا يتصرف النظام الإيراني بعشوائية، بل ينفذ مشروعًا متكاملاً: فتوى، هجوم بحري، إطلاق صواريخ، عرض دعائي، وإعادة إنتاج أجواء الحرب.
ويعتبر النظام نفسه "المنتصر في الحرب الـ 12 يومًا مع إسرائيل"، لكن مَن يدفع ثمن هذا الانتصار الوهمي؟ البحارة الذين لن يُعثر على جثثهم؟ أم ملايين الإيرانيين العالقين في الفقر والرقابة والعقوبات، من دون أن يعرفوا أنهم باتوا جزءًا من لعبة خطرة لم يختاروها؟ شعب لا صوت له ولا خيار، فقط يشاهد حربًا تُخاض باسمه لكن دون موافقته؛ حيث فرضها عليه خامنئي.
عندما تقوم وسائل إعلام، مثل "إيران إنترناشيونال"، برواية هذه الحقائق وإطلاق التحذيرات، يتهمها النظام بأنها داعية حرب ومعادية لطهران. لكن هل التحذير من خطر قادم يُعتبر دعوة للحرب؟ هل من يصرخ قائلاً: "انتبهوا"، هو العدو؟ أم من يحرّض بالفتاوى والتهديدات ويدفع البلاد نحو المواجهة؟
ولا تملك وسائل الإعلام، مثل "إيران إنترناشيونال"، عود ثقاب، ولا تصدر فتاوى؛ هي فقط تحمل كاميرا، وخلفها صحافيون. تنقل المشهد.. المشهد الذي أعدّه النظام نفسه وأخرجه. الإعلام يحذر، أما النظام فيهدد.
لطالما زعم النظام الإيراني أنه لم يكن يومًا البادئ في أي حرب. لكن هل سأله أحد: قبل إطلاق أول رصاصة، ماذا قلت؟ ماذا فعلت؟ ما هي المقدمات التي جعلت الحرب أمرًا لا مفر منه؟

لا يستخدم النظام الإيراني الحرب للدفاع عن الوطن، بل يسيء استخدامها للدفاع عن نفسه؛ لخنق المجتمع، من أجل البقاء. ولتحقيق هذا البقاء، يحتاج إلى استمرار "حالة طوارئ دائمة".
إيران اليوم ليست منخرطة في حرب حقيقية، بل غارقة في حالة وهمية ومصطنعة من الحرب؛ حالة لا يكون فيها النظام مسؤولاً عن شيء، بل لا يكف عن طرح أسئلة زائفة وتهديدات موهومة.
اليوم، لا الأجواء هادئة، ولا الأوضاع مطمئنة. أي نظام طبيعي، بعد مروره بأزمة، يسعى أولاً إلى استعادة الأمن، ثم يعيد الطمأنينة إلى المجتمع. لكن النظام الإيراني يسير في الاتجاه المعاكس.
بعد وقف إطلاق النار، لم ترجع الحياة إلى طبيعتها، بل ازداد الضغط في كل المجالات: الإنترنت أصبح بطيئًا للغاية ومحدودًا، جودة الهواء في العديد من المدن باتت خطرة، وأسعار المواد الأساسية شهدت ارتفاعًا غير مسبوق. ومع ذلك، لم يقدّم المسؤولون أي خطة لتحسين الأوضاع.
بدلاً من ذلك، استند النظام إلى "حالة الحرب" ليكثّف القمع الأمني، ويوسّع نقاط التفتيش داخل المدن، وينتهك خصوصية المواطنين بشكل غير مسبوق.
في النظام الإيراني، لا تُدار الأزمات، بل تتحوّل إلى فرصة للقمع والسيطرة والاحتكار.
وفقاً للتقارير، تم اعتقال أكثر من 700 شخص في خمس محافظات فقط. والتهمة الأكثر شيوعًا؟ "التجسس".
في الوضع الراهن، أصبحت تهمة التجسس بديلًا لكل التهم: من النقد البسيط والمطالبة بالحقوق الأساسية، إلى مجرد كون الشخص مهاجرًا.
وقد صادق البرلمان الإيراني مؤخرًا على مسودة قانون، تنصّ على إمكانية إصدار حكم الإعدام في قضايا التجسس من دون محاكمة، من دون محامٍ، ومن دون حق الدفاع.
حتى داخل أجهزة النظام نفسها، اندلع الخلاف بشأن الجهة التي ينبغي أن توقع على أحكام الإعدام، وهو مؤشر واضح على انهيار النظام القضائي، واستسلام المؤسسات الرسمية أمام آلة القمع.
الانهيار الاقتصادي.. بتبرير أمني
الاقتصاد الإيراني في حالة كارثية. أسعار السلع الأساسية، من اللحوم والألبان إلى الأرز، ارتفعت بشكل غير مسبوق. المتاجر تعاني من نقص حاد.
وردّ النظام على هذه الأزمة عبارة واحدة فقط: "نحن في حالة حرب!"
هذه الجملة تُستخدم لتبرير كل شيء: من خفض سرعة الإنترنت، إلى غياب الرقابة على الأسواق، نقص الدواء، الفوضى الإدارية، وحتى القمع السياسي.
لقد تحوّلت "حالة الحرب" إلى غطاء للتستّر على الفشل والفساد والقصور البنيوي.
وتحوّلت هيئة الإذاعة والتلفزيون التابعة للنظام الإيراني إلى ساحة للعروض العسكرية، والاعترافات القسرية، والترويج لـ"الوحدة الوطنية"؛ وحدة لا تقوم إلا على أساس الخوف والصمت.
وحذّرت بعض وسائل الإعلام الدولية من أن النظام الإيراني يتجه تدريجياً نحو نموذج شبيه بالنظام الكوري الشمالي: تطهير داخلي، تصفية المعارضين، انعدام الثقة بالداخل والخارج، وحكم يقف على أنقاض شرعيته، ولا يحكم إلا بالقبضة الحديدية.

صباحٌ في طهران. شارعٌ مزدحم. فتاةٌ صغيرة تمرّ بحقيبة مدرستها إلى جوار حائط كُتب عليه بالرشّ: "الموت لأميركا". لا تعرف الفتاة شيئاً عن السياسة، ولا صورة في ذهنها عن أميركا. فقط أسئلة بريئة تتشكل في ذهنها: لماذا الموت؟ ما معنى الموت؟ ما المقصود بالموت؟
هذه الأسئلة البسيطة ولكن الجذرية، تتكرر منذ عقود في أذهان ملايين الإيرانيين. نحن نشأنا على شعار "الموت". الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، الموت للعدو. من صلاة الجمعة إلى كتب المناهج، من الإذاعة والتلفزيون الرسمي وتوابعهما إلى عقول أطفال المدارس الابتدائية. طوال هذه السنوات، لم يسأل أحد: أين هي الحياة؟ لماذا لا نتمنى الحياة لأحد؟
العداء.. محور البقاء
شعار "الموت لأميركا" ليس مجرد اعتراض سياسي؛ بل هو الركيزة الأساسية للخطاب الذي يبقي النظام الإيراني قائماً.
منذ اليوم التالي لثورة 1979، تحوّل هذا الشعار إلى أداة لترسيخ السلطة؛ أُحرقت الأعلام الأميركية، وامتلأت شاشات التلفزيون وجدران الشوارع بالغضب والكراهية، وأصبح مفهوم العداء لـ"الاستكبار" عنصراً محورياً في الدعاية الرسمية للنظام.
في عالم يُعرّف عبر "الموت"، لا يبقى مكان للحوار أو السلام أو التفاهم. العداء هو محور البقاء. تخيّل عالماً تستخدم فيه مجموعة، تمثّل شعب دولة ما ونظام حكمها، كل فرصة لتتمنى موتك، تحرق علم بلدك وتدوسه بالأقدام. هذا هو العالم الذي قدّمه النظام الإيراني للعالم باسم شعب إيران وبلد إيران وحكومته.
مقابلة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مع تاكر كارلسون كانت أهم من مجرد حوار إعلامي عابر. بزشكيان ادّعى أن "شعار الموت لأميركا لا يعني الموت لشعب أميركا أو مسؤوليها، بل هو احتجاج على السياسات التدخلية الأميركية".
قد يقبل تاكر كارلسون، الإعلامي السابق في قناة "فوكس"، هذا الادعاء دون مساءلة، لكننا نعلم جيداً ما الذي يفعله بزشكيان ولماذا يكذب.
في الظاهر، كانت تصريحاته محاولة لتجميل صورة النظام؛ إشارة ضمنية لـ"تقيّة" دبلوماسية.
لكن في الواقع، تكشف هذه التصريحات التناقض داخل الرواية الرسمية للنظام. ففي اليوم نفسه، قام أنصار النظام عبر الإعلام الرسمي بإحراق علم أميركا، تحدثوا عن "الشيطان الأكبر" وصرخوا بنفس اللهجة القديمة: "الموت لأميركا".
وذلك رغم أنه لم يمضِ وقت طويل على تصريح المرشد الإيراني بشكل صريح: "شعار الموت لأميركا يعني الموت لترامب وصنّاع السياسات الأميركيين الآخرين".
مجرّد شعار!
منذ احتلال السفارة الأميركية عام 1979 وحتى اليوم، أصبح هذا الشعار وسيلة لبقاء النظام الإيراني؛ شعارٌ يصنع عدواً خارجياً لتحويل أنظار الرأي العام عن الأزمات الداخلية.
كلما طالب الناس بالمحاسبة، عاد هذا الشعار ليُطلق في وجوههم: العدو هناك، وراء البحر، وليس هنا.
لكن الشعب الإيراني التوّاق للحرية اختار طريقاً آخر. من الحركة الخضراء إلى احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 وشعار "المرأة، الحياة، الحرية"، لم يكن شعار الشارع "الموت لأميركا"، بل "الموت للدكتاتور".
وفي كثير من التظاهرات، رفض المتظاهرون حتى الدوس على علم أميركا، لأنهم أدركوا أن العدو الحقيقي ليس في الضفة الأخرى من الحدود، بل في قلب هذا النظام الحاكم نفسه؛ النظام الذي انتزع الحياة من الناس.
رؤساء الجمهورية ومشروع تخفيف الشعار
لم يكن مسعود بزشكيان أول رئيسٍ للحكومة في النظام الإيراني يحاول خداع الجمهور خارج البلاد.
على مدى العقود الأربعة الماضية، حاول رؤساء الجمهورية المتعاقبون تليين هذا الشعار أو اختراع معنى جديد له. فقد زعم هاشمي رفسنجاني أن الخميني كان موافقًا على إلغاء الشعار، لكن هذه الرواية نفاها الجهاز الأمني.
تحدّث محمد خاتمي عن "حوار الحضارات"، لكن مكبرات الصوت الرسمية استمرت في ترديد شعار الموت. وقال حسن روحاني إن لا مشكلة لدى النظام مع الشعب الأميركي، فقُوبل بموجة قمع شديدة. والآن يسلك بزشكيان الطريق نفسه، لكن روايته لا تستند إلى دعم مؤسسي ولا تملك شرعية سياسية.
تصريحاته تنتمي إلى التيار الإصلاحي داخل النظام، وهو تيار لم يعد له موطئ قدم في هيكل السلطة. ربما يصفها البعض داخل النظام بـ"البصيرة"، بدافع القلق، لكن الحقيقة أن بزشكيان لم يكن حتى الآن سوى منفّذ لإرادة المرشد الإيراني، لا أكثر.
سارعت وسائل الإعلام والشخصيات المقربة من النظام إلى مهاجمة بزشكيان. سيناريو متكرر: أحد مسؤولي النظام يتبنّى موقفًا أكثر ليبرالية – عادةً صحيفة "جوان" هي من تبدأ بالدفاع – فتأتي الردود العنيفة من نفس الوجوه المعروفة.
صحيفة "كيهان" وصفته بـ"المخدوع"، ووكالات الأنباء التابعة للحرس الثوري اتّهمته بالتخلي عن "أدبيات الشهادة".
أما حميد رسائي فتهكّم قائلاً إنه يصلح للخطبة والزواج لا للرئاسة. بعض المستخدمين من أنصار النظام أطلقوا حملة لعزله. عدد محدود من الشخصيات، مثل عطا الله مهاجراني، دافع عنه واعتبر تصريحاته "حاملة لرسالة سلام".
مطرقة ترامب تهوي فجأة!
وفي هذه الأثناء، صرّح دونالد ترامب أثناء عشاء مع بنيامين نتنياهو قائلاً: "على النظام الإيراني أن يكفّ عن ترديد شعاري الموت لأميركا والموت لإسرائيل. يجب التخلي عن هذه اللغة".
للمرة الأولى، لم يأتِ مطلب التخلي عن شعار "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل" من محللين سياسيين أو وسائل إعلام، بل جاء صريحًا على لسان رئيس أميركي. والرسالة الضمنية واضحة: إذا كنتم تريدون التفاوض، فعليكم أولًا أن تتوقفوا عن ترديد هذه الشعارات.
إذا كان هذا شرط ترامب لاستئناف المفاوضات، فإن التفاوض يصبح عمليًا عرضًا سياسيًا من الطرفين. النظام الإيراني يشتري الوقت، وترامب لا أحد يعلم ما الذي يدور في رأسه. لقد أثبت مرارًا أنه لا يمكن التنبؤ به.
الجيل الجديد في إيران لم يعد يؤمن بهذه الشعارات. الناس في الشوارع هتفوا بأنهم تجاوزوا الموت، ويبحثون عن الحياة، والرفاه، والحرية. الإيرانيون سئموا من الشعارات، ومن الكراهية، ومن أيديولوجيا الموت. هذه الشعارات لم تجلب لهم سوى العقوبات، والفقر، وحروب لا طائل منها.
تلك الطفلة، وذلك المتظاهر، وذلك الجيل المرهَق، لا يطلبون سوى شيء بسيط وبديهي: الحياة.
وربما يكون قد حان الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن نوجّه هذا السؤال للنظام الإيراني: لماذا لا تزال الحياة، في بلدٍ بهذه الثروات والتاريخ، حلمًا بعيدًا لملايين الإيرانيين؟
"الموت لأميركا".. ركيزة النظام الأيديولوجية
هل يتراجع النظام الإيراني حقًا عن ركيزته الأيديولوجية المتمثلة في شعار "الموت لأميركا"؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه تكتيكًا مؤقتًا لعبور ضغوط اللحظة، والعزلة الإقليمية، والأزمات الداخلية؟
إذا كان بزشكيان قد تكلّم بضوء أخضر من النظام، فهذه إشارة إلى تراجع رسمي. وإن لم يكن كذلك، فهي علامة على الانقسام وفقدان رئيس الجمهورية للسلطة.
لقد أظهر تاريخ النظام الإيراني أن التراجع عن الشعارات يحدث إما تحت ضغط الشارع أو بسبب أزمات خارجية. وربما هذه المرة يكون كلا العاملين حاضرين.
فهل تراجع النظام خوفًا من الانهيار؟ وهل آن الأوان ليدفن شعار "الموت لأميركا"؟ والسؤال الأهم: هل يستطيع النظام الإيراني أن يستمر في الوجود من دون هذا الشعار؟

أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى الولايات المتحدة ولقاؤه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، الكثير من التكهنات بشأن أهداف هذا اللقاء.
يرى كثيرون أن هذا الاجتماع جاء لمناقشة نتائج الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على إيران، واتخاذ قرار بشأن كيفية الاستمرار في التعامل معها؛ بما في ذلك احتمال اتخاذ قرار بقتل أو عدم قتل المرشد الإيراني علي خامنئي.
وكان يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، قد صرّح بوضوح عقب الهجوم الصاروخي الإيراني على مبنى سكني في إسرائيل قائلاً: "يجب أن لا يبقى خامنئي على قيد الحياة".
ولفهم الوضع الحالي بشكل أفضل، من المفيد النظر في سوابق الولايات المتحدة وإسرائيل في ملاحقة وتصفيات أعدائهما في الشرق الأوسط.
فبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 التي قُتل فيها أكثر من ثلاثة آلاف أميركي، أعلنت أميركا أنها ستطارد قادة تنظيم القاعدة، بمن فيهم أسامة بن لادن، أينما كانوا. وقد أدى هذا الالتزام إلى مقتل بن لادن في عام 2011 في باكستان. ولاحقًا، قُتل أيمن الظواهري، خليفته، في كابول عام 2022 بضربة أميركية بطائرة مسيّرة، بينما كان يعتقد أنه في أمان تام.
كما اغتالت إسرائيل، بطلب من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، أبا محمد المصري، أحد القياديين البارزين في تنظيم القاعدة، على الأراضي الإيرانية. وهناك حالات أخرى، مثل مقتل ملا أختر منصور، زعيم طالبان، على الحدود بين إيران وأفغانستان، تمثّل نماذج على القدرات الاستخباراتية والعملياتية الأميركية والإسرائيلية في تصفية أعدائهما.
وفي السنوات الأخيرة، استهدفت إسرائيل العديد من القياديين البارزين في الجماعات التابعة للنظام الإيراني مثل حزب الله وحماس. من عماد مغنية وحسن نصرالله في حزب الله، إلى إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف في حماس، حيث قُتل معظمهم بعد سنوات من المطاردة.
وكان مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، على يد الولايات المتحدة، نقطة تحول في هذا المسار. فقد كان كثيرون يعتقدون أن أميركا لن تجرؤ على اغتيال شخصية بهذا الحجم، لكن قتله في بغداد أثبت خطأ هذه التقديرات. وفي العملية نفسها، قُتل أيضًا أبو مهدي المهندس، قائد الحشد الشعبي في العراق، وهو شخص كانت أميركا تطارده منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وعلى عكس طهران التي كررت مرارًا تهديداتها بالانتقام دون أن تتمكن من استهداف شخصيات أميركية مثل ترامب أو بومبيو أو بولتون، فقد نجحت أميركا وإسرائيل عمليًا في تصفية عدد من أعدائهما حتى في قلب طهران أو بيروت أو دمشق أو بغداد.
وفي الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يومًا، تمكّنت إسرائيل في ساعاتها الأولى من اغتيال عدد من القادة البارزين في الحرس الثوري. ويعتقد كثيرون أن الحرب بدأت فعليًا منذ لحظة تنفيذ تلك الاغتيالات.
في النهاية، ما تكشفه هذه السوابق هو أن مسألة تصفية زعماء مثل خامنئي تعتمد بالنسبة لأميركا وإسرائيل على القرار والإرادة السياسية أكثر مما تعتمد على القدرة العملياتية.
فعلى الصعيدين الاستخباراتي والعملياتي، أثبتت هاتان الدولتان مرارًا قدرتهما على ملاحقة وتصفيات أهدافهما، حتى بعد مرور عقود. بينما لم تستطع إيران، رغم ما تبديه من نوايا سياسية واضحة لتصفية شخصيات مثل ترامب أو نتنياهو، تحقيق أي من هذه التهديدات.
واليوم، إن قرر نتنياهو وترامب استهداف خامنئي، فحتى إن اختبأ في ملجأ، يبدو أن لديهما الأدوات والقدرات اللازمة لتنفيذ ذلك، سواء من الناحية الاستخباراتية أو العملياتية. ويبقى الأمر متوقفًا على صدور القرار النهائي فقط.

في خضم الأزمات الاقتصادية، والضغوط الدولية، والإخفاقات الأمنية، عادت إيران مجددًا لتُسلّط سيف القمع واللوم على اللاجئين الأفغان. موجة الاعتقالات والإهانات والطرد الأخيرة لهؤلاء المهاجرين لم تكن صدفة، ولا وليدة اللحظة.
إن هذه الانتهاكات امتداد لسياسة بدأت منذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية، بشعارات مثل "الوحدة الإسلامية" و"الإسلام لا يعرف الحدود"، لكنها لم تُفضِ في الواقع إلا إلى انعدام الاستقرار والمصير الغامض والاستغلال السياسي لملايين الأفغان.
في السنوات الأولى بعد الثورة عام 1979، فتح روح الله الخميني حدود إيران أمام الأفغان، لا سيما بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، بدافع كسب الشرعية بين مسلمي المنطقة وتعزيز ما سُمي "الأمة الإسلامية". ولكن، وعلى الرغم من تلك الشعارات، لم تُوضع أي سياسات واضحة أو برامج منظمة لاستيعابهم أو منحهم حقوقًا مدنية. تُرك اللاجئون الأفغان لمصيرهم، معظمهم بلا وثائق إقامة، أو تأمين، أو حق التعليم والعمل القانوني.
أداة في المشاريع العسكرية والسياسية
لاحقًا، استُخدم الأفغان كأداة في مشاريع النظام الإيراني. في سوريا، جُنّد الآلاف منهم ضمن لواء "فاطميون" للقتال. وفي إيران، شكّلوا اليد العاملة الرخيصة بلا حماية قانونية، يعملون في البناء والزراعة والخدمات. وعند كل أزمة داخلية، كانت تُفعّل الحكومة مشروع "طرد المهاجرين" أو تأليب الرأي العام ضدهم.
نحو مليونَين دخلوا إيران بعد 2021
مع تولي إبراهيم رئيسي الرئاسة وسقوط كابول بيد طالبان في أغسطس (آب) 2021، دخلت موجة جديدة من اللاجئين إلى إيران، يُقدّر عددهم بأكثر من مليوني شخص خلال عامين. لكن بدلًا من وضع سياسات واضحة، تُركت الحدود بلا رقابة، ما أدى إلى انتشار الفساد في المعابر، وازدهار سوق التهريب، وظهور مخاوف اجتماعية.
وعوضًا عن المعالجة البنيوية، عمد النظام إلى تصوير المهاجر الأفغاني كـ"تهديد أمني". ومع تصاعد الهجمات الإسرائيلية على المنشآت العسكرية والنووية، ووقوع خسائر كبيرة في صفوف الحرس الثوري والقيادة الأمنية، تفاقمت هذه الدعاية. ووجد المجتمع الإيراني، المُحبط واليائس من الحكومة، في الأفغان "عدوًا داخليًا" جاهزًا لتحميله المسؤولية.
ويروج بعض المسؤولين لفكرة أن المهاجرين الأفغان يشكلون نسبة كبيرة من الجريمة، لكن الأرقام الرسمية للقضاء الإيراني تشير إلى أن نسبتهم من السجناء لا تتجاوز 6 في المائة، بينما يُقدّر عددهم بين 5 إلى 7 ملايين. معظم القضايا ضدهم تتعلق بالدخول غير القانوني أو العمل دون تصريح، وليس بجرائم عنيفة.
ولا يمكن تجاهل دور النظام الإيراني في زعزعة الوضع داخل أفغانستان نفسها، عبر أذرع مثل "سباه أنصار" في شرق إيران، والتي مارست سياسات تدخلية ساهمت في اضطراب الأوضاع. كما أدى التناقض بين سياسات الخارجية الإيرانية و"الحرس" إلى نشوء صراعات داخل المجموعات المدعومة من إيران داخل أفغانستان.
أضف إلى ذلك استضافة عائلات قادة الجماعات الجهادية الأفغانية داخل إيران، لجعلهم تابعين للنظام. وهو ما يكشف سياسة متعمّدة لإبقاء أبواب إيران مفتوحة أمام مهاجرين "مختارين" لأغراض جيوسياسية.
طرد جماعي غير مسبوق بعد الحرب مع إسرائيل
خلال الحرب التي دامت 12 يومًا بين إيران وإسرائيل، تصاعدت عمليات طرد اللاجئين بشكل كبير.
ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، فقد غادر نحو 690 ألف لاجئ أفغاني إيران بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) 2025، منهم أكثر من 70 في المائة طُردوا قسرًا. وفي يونيو وحده، خرج 230 ألفًا، في ظل إنذار رسمي من الحكومة الإيرانية بمغادرة جميع من لا يحملون إقامة بحلول 5 يوليو (تموز) 2025.
وقد شاهدت في عام 2001، بعد سقوط طالبان، في منطقة إسلام قلعة– قرب مدينة تايباد الحدودية– مقابر جماعية دفن فيها لاجئون من إثنية الهزارة الشيعة، أعادتهم السلطات الإيرانية، فتم إعدامهم على يد طالبان في الصحراء.
وعلى الرغم من علم إيران بأن الهزارة يتعرضون لتصفية ممنهجة من طالبان، فإنها استمرت في إعادة اللاجئين قسرًا، وتحديدًا من المدن إلى معسكرات حدودية تمهيدًا لطردهم.
تكريس الكراهية
إن تحويل اللاجئين إلى فزّاعة مجتمعية، لم يُخلّف فقط أزمة تعايش، بل شكّل تهديدًا حقيقيًا لأمنهم الإنساني. وهناك تقارير عن اعتداءات، إشعال حرائق في منازلهم، وضرب وإذلال في الشوارع، وهجمات جماعية. في المقابل، ترى بعض التيارات المتشددة أن الدفاع عن حقوقهم "خيانة".
وفي ظل الأزمات المتعددة– العقوبات، الركود، انهيار الثقة– تُلقي إيران باللوم على المهاجرين، متجاهلة أن هؤلاء جزء لا يتجزأ من البنية الاقتصادية والاجتماعية في إيران.
العودة إلى العقل والعدالة
ما تحتاجه إيران اليوم هو إعادة نظر جذرية في نظرتها إلى "الآخر"، وأن تُحاسب السلطة على سياساتها الانتهازية بحق اللاجئين، الذين دخلوا البلاد تحت راية الإسلام، واليوم يُتركون ليُحرقوا بنار الكراهية.
الصمت إزاء ما يجري، ليس حيادًا، بل تواطؤ مع الظلم.

في عالمٍ باتت فيه مشاهد العنف والموت أمرًا روتينيًا لا يهزّ القلوب كما في السابق، تندفع أحيانًا صورة واحدة لكسر هذا الجمود بين المشاهدة السلبية والانخراط العاطفي العميق. وهذا تمامًا ما فعله فيديو الانفجار في ميدان تجريش.
لم يكن هذا الانفجار أول حادث دموي في السنوات الأخيرة، ولا أكثرها دموية، لكن في ذلك الفيديو شيء شدّنا، وأبقانا مشدوهين. إنه ليس فقط تصويرًا لحادثة، بل مشهد لانهيار ذهني جماعي لمجتمع يعيش منذ سنوات في حالة من التعليق الوجودي. هذا الانهيار ليس مجرد شعور، بل إن له جذورا في النظام الاجتماعي والثقة المدنية. بخلاف عشرات الفيديوهات العنيفة الأخرى، كسر هذا المقطع شيئًا في داخلنا. والسؤال الذي يحاول هذا المقال الإجابة عليه هو: لماذا صدمنا بهذا الشكل؟
المدينة.. الزحام.. العجز... والنهاية
من المهم أن لا ننسى أن المجتمعات لا تقوم على القانون وحده، بل على الثقة في استمرارية النظام، وعلى الإحساس بالانتماء للتاريخ والمكان، وهي الروابط الأساسية التي تبقي المجتمعات متماسكة. تجريش، بالنسبة لسكان طهران (وحتى لكثيرين ممن مرّوا بها)، ليست مجرد ساحة مدنية، بل رمز لهذه الاستمرارية والارتباط. تقع في أقصى شمال العاصمة، وشهدت على مرّ التاريخ أحداثًا عديدة، وكانت دائمًا خليطًا من الطبيعة والدين والثقافة والاقتصاد، من السيول إلى آلاف الذكريات الحلوة والمرة.
الانفجار في مثل هذا الموقع هو أكثر من مجرد فعل حربي؛ إنه رمز لانفصال الفرد عن المدينة، وانقطاع الذاكرة عن المكان، وانهيار العلاقة بين الشعب والوطن. وكأن كل تلك الروابط تطايرت مع تلك السيارة البيضاء التي انفجرت وسقطت كالموت على الأرض.
المدينة.. الصدمة.. الحرب والموت
المدينة ليست فقط فضاءً للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي، بل إطار للأخلاق العامة والتقاليد غير المكتوبة. وحين تتحول إلى مسرح لحرب لم يكن لها يد في بدايتها ولا نهايتها، وتُقصف بلا سابق إنذار، ينهار الإحساس الجماعي بالملكية والانتماء إلى البيئة. وهذا بالضبط ما تصوّره لنا كاميرا مراقبة ساحة تجريش: انكسار جدارٍ غير مرئي، لا على الحدود، بل في قلب المدينة.
في الفيديو الملتقط من كاميرا مراقبة، لا نجد صراخًا ولا مونتاجًا، فقط صورة خام للحظة التي انفجر فيها الشارع فجأة، وتطايرت الأجسام في الهواء. هذه العفوية القاتلة هي ما يجعل الصورة أكثر واقعية وأكثر إيلامًا. لقد رأينا الموت، لا في ساحة معركة، بل على الرصيف، في وسط الروتين اليومي، وهذا التضاد هو الذي هزّ أعماقنا.
المدينة.. الأمان.. والروابط التي انفجرت
بالنسبة لنا، الأمان هو ثمرة رابط ثقافي ونفسي بين الشعب، وهو رابط لا تصنعه السلطة بل بناه الناس عبر سنوات من المعاناة. بل أحيانًا، تكون السلطة نفسها قد سلبت منهم هذا الأمان.
ما يجعل صورة تجريش مرعبة هو غياب هذا الرابط. الصورة تضعنا أمام واقع لا توجد فيه مؤسسات مسؤولة، ولا روايات رسمية موثوقة، ولا مواطن يشعر بأنه جزء من نظام متماسك.
هذه اللحظات أخطر من الانفجار ذاته، لأنها تقوّض أساس ما يجعل من المجتمع مجتمعًا.
إنها ضربة للحياة اليومية، الحياة التي كانت تحاول أن تستمر رغم الحرب التي استمرت 12 يومًا، في مجتمعٍ لا يزال يؤمن بالنظام والقانون ونمط حياة جديد رغم كل شيء. لكن هذا الفيديو جاء ليقول لهم:" لا شيء طبيعي بعد الآن. الطبقة التي كان يفترض أن تكون عماد المجتمع، تدرك فجأة أنها حتى في قلب طهران، في وضح النهار، في ميدان يمثل المدنية، لا توجد حماية ولا دفاع.
المدينة.. الصورة الذهنية.. والألم المحفور
ربما لكل جيل صور محفورة في ذاكرته إلى الأبد: سنوات الحرب في الثمانينيات، جثتا داريوش وبروانه فروهر المغطتان ببطانية، رصاصة ندا آقا سلطان، صرخات القصب في معشور، دموع والدي مهسا أميني في المستشفى، و"باسم قوس قزح" من كيان بيرفلك، وغيرها مئات الصور...
واليوم، تذكّرنا صورة تجريش بأنه إن لم يستطع المجتمع الربط بين الصدمة والمعنى، وإن لم يتمكن من صناعة حياة من مشهد الموت، فسينزلق نحو اللامبالاة. هذه الصورة لا تحتاج فقط إلى تحليل أمني أو عسكري، بل إلى حوار عام، حِداد جماعي، وإعادة قراءة اجتماعية.. يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا أثّرت فينا هذه الصورة؟ ماذا انكسر في داخلنا؟
إننا لم نصدم فقط من الانفجار، بل من معناه. المعنى الذي يقول إن المدينة لم تعد ملاذًا آمنا. وهذه هي الرسالة الأخطر في هذا الفيديو.
تجريش لم تعد فقط ساحة، بل رمزٌ لفتح حديثٍ جديد عن الروابط التي تجمعنا. عندما نتحدث عن الحرب، لِنُنزل الأعلام والهتافات لوهلة، ولنواجه الحقيقة: ربما لم تعد المدينة مدينتنا؛ المدينة التي فُصِلت فيها السلطة عن الناس منذ زمن، لكنها رغم ذلك، كانت وما زالت ملكًا لمواطنيها.